حظ القرويين في الدفاع عن السيادة الوطنية ضد الغزو الأجنبي ونشأة الحركة الوطنية بها
بقلم محمد إبراهيم الكتاني
كتبه بمناسبة ذكرى مرور أحد عشر قرنا على تأسيس جامعة القرويين بفاس
م1950 ه 1380
الدفاع عن السيادة الوطنية ضد الغزو الاجنبي اول واجب وطني على كل مواطن، واشرفه وأقدسه، وقيمة العقائد والمذاهب والمبادئ والافكار والدعوات رهينة بمقدار عملها على الدفاع عن هذه السيادة وحمايتها والمحافظة عليها، وكذلك قيمة الأشخاص - كيفما كانت حيثياتهم - والهيئات والجماعات والمؤسسات، تابعة لمقدار اخلاصها لهذه السيادة ومساهمتها في حمايتها والذب عنها والتضحية في سبيلها بالنفس، فما دونها، كما ان خيانة السيادة الوطنية، والتآمر عليها مع العدو او التهاون في القيام بواجب الدفاع عنها افظع جريمة وطنية واحقرها وابخسها و ارذلها، و هي السوأة التي لا تستر، والجريمة التي لا تغفر، والردة التي تبيع دم مرتكبها وماله ، وتبطل جميع ما يمكن ان يكون له ازاء المجتمع من حقوق وواجبات، وتهدر جميع ما عساه يتصف به من صفات توجب الاحترام او التقدير، بهذا قضت الفطرة البشرية، وعلى اساسه قامت المجتمعات الانسانية، وبه جاء الاسلام الحنيف، وعلى هديه سار سلف المسلمين الصالح.
كيف حافظ الإسلام على السيادة الوطنية؟
تكفل الاسلام بتنظيم المجتمع الاسلامي - الذي اقامه على اساس الرابطة الاسلامية - وجعل للمسلم رسالة في الحياة ذات مثل عليا، واتجاهات انسانية، وقيم خلقية، فدفع بذلك العرب الى الخروج من عزلتهم والانطلاق الى العالم لتحريره من الاستعمار والظلم والضلال والجهل، وحفظ لهم - بعد انتشارهم في أطراف الأرض - تماسكهم، ولغتهم واخلاقهم، فكان - كما لاحظ الاستاذ ساطع الحصري بحق - قوة دافعة بالنسبة اليهم وقوة واقية كذلك.
ان ما يقارب سدس الآيات القرآنية كله خاص بالجهاد واحكامه وآدابه والتحريض عليه والتنويه باهله وتقريع المتخلفين والمثبطين عنه وعرض حوادث بعض غزوات الرسول وسراياه.
فلما اتجه المسلمون الى تدوين ثقافتهم كان لعلماء التفسير والحديث والسيرة النبوية والتاريخ الاسلامي بفروعه المختلفة، والفقه على اختلاف مذاهبه مجال فسيح في هذا الميدان، أغنى المكتبة الاسلامية بآلاف المجلدات التي شغلت المؤلفين والناسخين، والرواة والدارسين، والخطباء ، والواعظين وانتقل صداها من حلقات الدرس ومجالس الوعظ و منابر الخطابة الى مختلف الاوساط الشعبية بدوا وحضرا ، نساء ورجالا ، عربان و مستعربين فعمت المجتمع الاسلامي روح الكفاح والتضحية في سبيل الدفاع عن المجتمع ومثله العليا.
القرويين
وجاء المسلمون الى المغرب فحرروه من الاستعمار الاجنبي اولا، ثم اندفع ابناءه شمالا وجنوبا - وشرقا ايضا - يحطون رسالة الإسلام ويدافعون عنها ويساهمون في الحضارة والثقافة الاسلاميتين بنصيبهم الملحوظ.
وكان تأسيس الدولة الادريسية بالمغرب، وما صاحبه من بناء مدينة فاس وجامعة القرويين حدثا هاما له اثاره البعيدة في تطور البلاد واتجاهها ، اذ ما لبثت ان اصبحت مركزا لنشر الثقافة الاسلامية ، والحضارة العربية ، بمن توافد عليها من عرب المشرق والمغرب ، ثم بمن استعرب على ايديهم من ابناء البلاد - بعد ان كانت من قبل مقاطعة تابعة للقيروان التي كانت هي ايضا تابعة لبغداد و انتشرت مراكز الثقافة العربية في طول البلاد وعرضها في السهول والجبال ، والشواطئ والصحارى ، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ، في صورة كتاتيب ، ومساجد ، و مدارس ، و رباطات ، وزوايا - وبيوت خصوصية ايضا يتلقى فيها اللغة العربية والثقافة الإسلامية ذكور واناث ، اطفال ، و شبان ، وكهول وشيوخ، من جميع الاعمار، وعلى جميع المستويات الدراسية، من دروس محاربة الامية والوعظ والارشاد، الى الدراسات العالية، في جميع فروع المعرفة العربية، كما تأسست الى جانب ذلك المكتبات العلمية، ما بين خصوصية وعمومية.
وكان مركز جامعة القرويين في هذا الجهاز الثقافي الضخم، مركز الرأس المفكر، والعقل المدبر، والرئيس الموجه ، فيها يتكون قادة الفكر، وبين اساطينها يتربى زعماء الرأي والى مدرسيها والمتخرجين منها و من فروعها - تلجأ البلاد شعبا وملوكا ورؤساء ، اذا حزب امر أو دهم خطب ، واليها يرجع الفضل - اخيرا - في جلب كل نفع للبلاد ، ودفع كل خطر عنها.
فكل من تلقى العلم بفاس فهو من القرويين، وكل عالم ورد على فاس من الاندلس او المشرق او بقية المراكز العلمية بالغرب الإسلامي على العموم او المغرب الاقصى على الخصوص عد من اهل القرويين، وكل من درس بالقرويين ثم انتقل الى مركز اخر داخل البلاد او خارجها ، ليتولى الملك او الوزارة او السفارة او الجهاد او القضاء او التسليم او الارشاد او غير ذلك فهو معدود من اهل القرويين اذ كانت المركز الرئيسي في البلاد للثقافة الاسلامية العربية المغربية التي لم تعرف البلاد في يوم من الايام ثقافة غيرها منذ دخلها الاسلام الى ان نكبت بالاستعمار ففرض عليها ثقافته الاجنبية الاستعمارية الصليبية الالحادية الاباحية الهدامة.
ولسنا نحاول ادعاء ان جميع من انتسب للقرويين منذ نشأتها الى الآن - قد قام بواجبه في الدفاع عن السيادة الوطنية خير قيام، وفق ما تقضي به التعاليم التي احتفظت بقداستها المجتمعات الاسلامية منذ نشأة الإسلام الى الآن، كلا، ومعاذ الله. فجامعة القرويين جزء من مجتمع واساتذتها وطلبتها من صميم هذا المجتمع، خضعوا في نشأتهم وتربيتهم وسلوكهم لكثير من العوامل المختلفة التي ليست الثقافة التي تلقوها في هذه الجامعة الا جزءا منها، وقد تعاقبت على هذا المجتمع عوامل القوة والضعف والتماسك والانحلال، والاستقامة والانحراف، وقد نالت الجامعة ولا شك حظها من ذلك كله.
ولكن فضل القرويين انها نشرت في المجتمع الاسلامي هذا الشعور العام بقدسية السيادة الوطنية قدسية دينية لا مجال للبشر في تحريفها او تأويلها او التسامح في شيء منها. فاذا تهاون بعض الناس في القيام بواجب الدفاع المحتوم عنها، لجبن، او طمع، او عجز،
او نفاق، أصدر المجتمع عليه حكمه الذي لا معقف له.
مظاهر مساهمة القرويين في الدفاع عن السيادة الوطنية
تجلت مساهمة القرويين في الدفاع عن السيادة الوطنية والدفاع عنها في مظاهر مختلفة:
فهناك - اولا هذه الشريعة الاسلامية التي لا تسمح للمسلم بان يخضع لسلطة ولا تقبل منه اي عذر في ذلك ، وتوجب على جميع المسلمين في جميع انحاء الدنيا ان يحطوا لانقاذ المسلمين حيثما كانوا من كل سلطة غير مسلمة اخضعتهم بالقوة وعجزوا عن التخلص منها ، وكل من اختار من نفسه الرضوخ لسلطة غير اسلامية او استعان بها ضد المسلمين او اعانها عليهم او على انتزاع ارض من سلطتهم فهو مرتد عن الاسلام بفعله ذلك - وان صلى وصام وزكى وحج واعتمر وزعم انه مسلم - ويجب على جميع المسلمين مقاومته مقاومة الأعداء، ومن تجسس للأعداء على المسلمين وجب على المسلمين قتله ولا تقبل منه توبة.
فهذه الأحكام - واشباهها تقرر في مختلف دروس القرويين العادية فقها مسلما تؤيده آيات القرآن وأحاديث الرسول وحوادث السيرة النبوية والتاريخ الاسلامي وسير السلف الصالح ونصوص الفقهاء.
و هناك ثانيا - الى جانب هذه الروح النظرية، الوقائع الوقتية التي يطبق فيها عمليا بحفر فقهاء القرويين هذه النظريات الفقهية على الحوادث الواقعية المتجددة. فقد كان من فقهاء القرويين من يخوض المعارك الحربية بنفسه دفاعا عن السيادة الوطنية، ومنهم من استشهد في سبيل الله.
ومنهم من عبأ الجيوش الى الثغور وشن الغارات على العدو وانتزع منه ما بيده من القلاع والحصون، ومنهم من وقف نفسه على الرباط وحراسة الثغور استعدادا لرد العدوان المتوقع فيهم من فعل ذلك بتعاون مع السلطة القائمة او اتفاق منها ، وفيهم من فعل ذلك ضد هذه السلطة لاتهامها بالتهاون في القيام بأول واجب عليها والذي ليس لأية سلطة أي عذر أو مبرر للتهاون فيه ، فاذا تهاونت او أهملت فقدت مشروعيتها ووجب على الشعب العمل الايجابي المباشر بكل الوسائل الممكنة للدفاع عن سيادته وحمايتها.
ومنهم من تصدى للتحريض على الدفاع عن البلاد ورد العدوان عنها واسترجاع ما احتله العدو من اجزائها والاستعداد لذلك بكل قوة ممكنة.
وقد استعملت في هذا السبيل مجالس التدريس، ومجالس الوعظ والتذكير ، وخطب الجمعة ، والقصائد الشعرية ، والأزجال ، والمؤلفات، والرسائل، والفتاوي والاجوبة.
ومن أبرز المواقف الوطنية لبعض فقهاء القرويين:
1)
جوابهم لمحمد بن عبد الله السعدى عند استعانته بالبرتغاليين ( القرن 10 هـ 16 م )
2)
ومعارضتهم لمحمد الشيخ في تسليم العرائش للإسبانيين ( ق 11 هـ 16 م )
3)
وتأييدهم للمجاهد العياشي ( ق 11 هـ 17 م )
4)
ومطالبتهم بتحرير بقية المناطق المحتلة كسبتة ومليلية - بمناسبة تحرير العرائش – (ق 12ه 17 م )
5)
ودعوتهم لتأييد الجزائر تأييدا مسلحا عند الاعتداء الفرنسي عليها ( ق 13 هـ 19 م )
6)
ومطالبتهم بتنظيم الجيش المغربي على النظام الحديث - بعد هزيمة إيسلي ( ق 13 م 19 ه )
7)
و استنكارهم احتماء المغاربة بالدول الاجنبية ( ق 14 هـ 19م)
8)
ودعوتهم لتحرير وجدة والدار البيضاء، وغيرهما مما احتله الفرنسيون والاسبان ( ق 14 هـ 20 م )
9)
ومقاومتهم للحماية المفروضة على البلاد، مقاومة مسلحة احيانا وسلمية احيانا اخرى (ق 14 ه 20 م )
وقد جمعنا كتابا في هذا الموضوع يتضمن بحصر الأسماء ، والأحدات والتواريخ وبعض المختارات الشعرية والنثرية وتلخيصا لبعض الفتاوي والاجوبة والمؤلفات وخطب الجمعة ونحو ذلك من الوثائق والمستندات، معتمدين على كثير من المخطوطات التي لم يسبق نشرها، او التي وفقتُ للظفر بها اثناء تنقيبي عن نوادر المخطوطات، من غير أن نقف على الحديث عنها او الاحالة عليها في أي كتاب.
.
فعسى ان تتهيأ الفرصة قريبا لظهوره مطبوعا بين أيدي القراء.
وكما وقف شاعر في القرن 7 هـ 13 م ينشد قصيدة في صحن القرويين يوم الجمعة بعد الصلاة لاستنفار المجاهدين ، فبكى الناس وانتدب كثير منهم للجهاد.
ونكست - في نفسر القرن – راية الاعداء في أعلى ضار القرويين احتفالا بالانتصار.
وطاف في القرن 11 هـ 15م أحد المؤمنين على مجالس العلم بفاس مناديا بالجهاد والخروج لإعانة المسلمين بالجزائر.
كذلك كانت في هذا القرن تقع التجمعات في القرويين للاحتجاج على تصرفات السلطات الاجنبية واعمالها.
وفيها كان الخطباء من متخرجي القرويين وطلبتها يخطبون لاستنهاض همم المؤمنين و تحريضهم على مقاومة العدو وتحديه ، فتخرج الجماهير للشوارع متظاهرة محتجة لتصطدم بقوة العدو ويموت افراد منها برصاصه ويساق الباقون الى مراكز الشرطة والمحاكم والمنافي والسجون.
ومن طلبة القرويين ومتخرجيها كان الدعاة ينتشرون لبث الفكرة الوطنية والتبشير بها وتكوين الحلقات السرية في البوادي والجبال والصحاري والقرى النائية والمناطق المحرمة التي لا يستطيع غير ابنائها الدخول إليها، معرضين للسجن والضرب والاضطهاد والقضاء على مصالحهم ومستقبلهم.
رد الفعل
و من الطبيعي – من هذا التاريخ الطويل، المتصل قديمه الحفيل، بحديثه المجيد – ان يحرف العدو للقرويين وما تمثله وتحرسه من ثقافة اسلامية ولغة عربية، هذا المقام المحمود، فيبادلها عداء بعداء ، ومقاومة بمقاومة ، ويعمل بجميع ما لديه من امكانيات غير محدودة على تحطيم هذه القرويين وثقافتها ، والقضاء عليها ماديا و ادبيا.
ومن الطبيعي - كذلك ان يشتد الصراع بين من يدافعون عن سيادة المغرب وشخصيته وثقافته، وبين اعداء البلاد حول هذا الصقل الشامخ وما يحمله من فكرة مقدسة حفظت للمجتمع تماسكه عبر القرون، وحالت دون انهياره امام الغزو الأجنبي الماحق.
والمجال الضيق لا يسمح لنا الآن بالإشارة الى شيء من الكفاح العنيف المتواصل الذي قام به المستنيرون من ابناء جامعة القرويين طلبة ومتخرجين، واساتذة وموظفين سامين، في الحفاظ على كيان هذه الجامعة وصيانتها من الاضمحلال.