إحياء الاجتهاد باعتباره قاعدة من قواعد التفكير في الإسلام
محاضرة ألقاها حول إحياءالاجتهاد في ندوة أكاديمية المملكة المغربية

المجتمع الإسلامي
المعجزة
حق التشريع
استقلال الفكر
فقه القرآن والسنة
ما يصدر عن المكلف
الإجتهاد البياني
الاجتهاد الفردي في عهد الرسول (ص)
وعن اجتهاد القاضي
الاجتهاد الجماعي فيما لا نص فيه على عهد رسول الله (ص)
اهتمام الإسلام بضمان آفاق المستقبل
عهد الخلافة الراشدة
فقهاء التابعين وتابعيهم
اختفاء الاجتهاد الجماعي
نشأة الثقافة العربية لخدمة القرآن وتمكين دارسيه من فهمه واستنباط الأحكام منه.
أصول الفقه
شروط الاجتهاد
مقاصد الشريعة
وانقطع الاجتهاد
الدعوة إلى الاجتهاد ومحاربة التقليد
وجاء الاستعمار
كيف نحيي الاجتهاد؟
مشاكل تنتظر الاجتهاد
الاقتصادالإسلامي
من لهم الاجتهاد بالرأي، لعبد الوهاب خلاف.
حول وجوب الزكاة في رواتب الموظفين وأُجور العمال وصافي إيرادات المباني وصافي إيرادات المِلْكِية الزراعية
النتائج التي ختمت بها دراسة (حكم شريعة الإسلام في عقود التأمين)
الطابع الجماعي في الفقه الإسلامي

المجتمع الإسلامي


جاء الإسلام لكي يقيم مجتمعاً إسلامياً متكاملاً له نظمه الاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية. ولكي ينشىء حضارة متكاملة لها كما هو الحال في كل الحضارات، جانبها المادي بالإضافة إلى الجانب الروحي، الذي يتمثل في نسق المعتقدات والقيم والأخلاق كما يقول كاتب معاصر

وفي الوقت الذي كان القرآن يضع فيه الأسس الثابتة لقيام هذا المجتمع الإسلامي وضمان استمراره، والتي تتسم بالاتجاه الجماعي، كان الرسول (ص) يبذل جهوداً خارقة لإقامة هذا المجتمع وتطبيق تعاليم القرآن وتوجيهاته في ميدان الواقع عن طريق الممارسة، ويكون الأطر اللازمة لاستمرارية مسيرة المجتمع، بعد انتقال الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى

المعجزة


وكان النجاح الذي حققه الله لرسوله - ولا أقول حققه الرسول - أمراً لا يمكن التعبير عنه إلا بكلمة واحدة لا ثاني لها هي المعجزة. فأساس هذا المجتمع هو القرآن، وها هو القرآن - على نطاق المجتمع الإسلامي - محفوظ في الصدور مكتوب في الصحف، لا يختلف اثنان ولو في آية واحدة منه، تحقيقاً لوعد الله الصادق:الحجر: 9.

حق التشريع


من يقينيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، أن حق التشريع إنما هو لله وحده، وذلك ما كرر القرآن القول فيه، وأعاده بمختلف الأساليب في كثير من الآيات مكية ومدنية ومن ذلك - مثلاً - ما جاء في سورة النحل وفي سورة يونس. وصف في سورة التوبة اليهود والنصارى بالكفر بالله، إذ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله،
وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير الطبري وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردوية، والبيهقي في سننه وغيرهم من عدة طرق أن عدي بن حاتم دخل على رسول الله (ص) وهو يقرأ هذه الآية، قال: فقلت إنهم لم يعبدوهم فقال بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم. 20 - راجع الآيات التالية: الشورى 10، 15. الأنعام: 57، 87، 88، 118، 119، 138، 150. يوسف: 40. المائدة: 1. البقرة: 216. التحريم: 1. النحل: 56. التوبة: 29، 37، 115، الشورى: 215.
ارجع إلى القائمة...

استقلال الفكر

والقرآن إذ ينكر تقليد الأباء، واتباع الرؤساء، والقول بغير علم، واتباع الظن والهوى ويطالب باستعمال الحجة والاعتماد على البرهان، يلزم الناس باتباع ما أنزل إليهم من ربهم والوقوف عند حدوده وعدم تعديها، والتحاكم إليه عند التنازع والاختلاف، مع الرضى بما به قضى، والتسليم لما به حكم. وآيات القرآن في هذه الموضوعات لا تكد تعد

فقه القرآن والسنة


لقد تضمن الوحي الخاتم للرسالات الإلهية الدليل على أحكام كل ما يحتاجه الناس في دينهم ودنياهم. قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله في كتابه «الرسالة»: «فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها» (ص20). ط/الحلبي 1358هـ، مصر.

ما يصدر عن المكلف


وتتناول آيات القرآن التي تتعلق بما يصدر عن المكلف: 1 - العبادات، وما ألحق بها من الأيمان والزكاة. 2 - والمعاملات وهي: أحكام الأحوال الشخصية. والأحكام المدنية. والأحكام الجنائية. وأحكام المرافعات. والأحكام الدستورية. والأحكام الدولية. والأحكام الاقتصادية والمالية. وذكر حجة الإسلام الغزالي في المستصفى أن عدد آيات الأحكام نحو خمسمائة آية (ص101) ط. المكتبة التجارية 1356، مصر.
وينقسم التشريع القرآني من حيث الإجمال والتفصيل إلى أربعة أقسام
أ) تشريع مجمل، لم يبين من أحواله وصفاته إلا القليل. ب) تشريع مبين بعض البيان، فصلت بعض أحواله، وترك الباقي للسنة واجتهاد علماء الأمة. ج) تشريع تفصيلي، فصلا تفصيلاً ولم يترك منه إلا القليل. لبيان السنة واجتهاد المجتهدين، وذلك في موضوعات ليس من شأنها التطور ولا الاختلاف باختلاف الأزمان والأُمم. د) تشريع القواعد والأصول العامة. وراجع أمثلة هذه الأقسام في كتاب «فقه الإسلام» ص 15 - 66 تأليف حسن أحمد الخطيب 1371 هـ = 1952م، مطبعة سيدي علي حافظ، القاهرة.
وأسند الله إلى رسوله - إلى جانب تبليغ ما أوحاه الله إليه - تبيينه للناس: بأقواله وأفعاله، وعدم إنكاره، وتلك هي السنة. وهي تنقسم أقساماً كثيرة، خصوصاً من جهة ثبوت نقلها عن الرسول.
أ) بيان الرسول العملي والمستمر المنقول نقلاً متواتراً، مثل هيئة الصلاة والحج فهذا بمنزلة نقل القرآن سواء بسواء. ب) وما نقل نقلاً صحيحاً عن طريق الآحاد، فهذا على العموم حجة مقبولة. وفيه أحياناً مجال للاجتهاد واختلاف الرأي حسب تفاصيل عند علماء الحديث والأصول. ولا تكون السنة حجة تشريعية إلا إذا صدرت عن رسول الله (ص) بوصف أنه رسول الله وكان مقصوداً بها التشريع العام والاقتداء. أما ما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية، ولم يدل دليل على أن المقصود به الاقتداء فليس تشريعاً، وكذلك ما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشؤون الدنيوية، فليس تشريعاً. وكذلك ما دل الدليل الشرعي على أنه خاص به (ص) أو من خصه (ص) به. فلا يكون تشريعاً لغيره.
ارجع إلى القائمة...

الاجتهاد البياني


ألفاظ اللغة العربية تنقسم إلى أ) ألفاظ قطعية الدلالة على معناها بحيث لا مجال لفهم معنى غيره ولا تحتمل تأويلاً. ب) وألفاظ ظنية الدلالة على المعنى المراد منها، وهي اللفظ الذي يحتمل أكثر من معنى ويحتمل أن يؤول ويصرف إلى معنى آخر، وفي هذا القسم مجال للاجتهاد في فهم النصوص. ج) وتنقسم الألفاظ إلى واضحة وغير واضحة، والواقع يشمل الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم. وغير الواضح يشمل الخفي، والمشكل، والمجمل، والمتشابه. د) ودلالة اللفظ تارة تكون بصريح العبارة، وهي المنطوق، وتارة بطريق الإشارة وهي المفهوم، وكل ذلك تناوله بالدراسة علم أُصول الفقه
ارجع إلى القائمة...

الاجتهاد الفردي في عهد الرسول (ص)


ويتجلى مما سبق، أن الاجتهاد يمتزج بالنص امتزاجاً عضوياً، بحيث لا يكاد ينفك عنه وقد سجل القرآن وكتب السنة والسيرة حوادث كثيرة من اجتهادات الرسول نفسه واجتهادات صحابته على عهده (ص). أصاب المجتهدون في بعضها وأخطؤوا في بعضها الآخر، كما هي طبيعة الاجتهاد التي لا تتغير. راجع الآيات: الأنفال: 67، 68، التحريم: 1. آل عمران: 127. التوبة: 3. الأحزاب: 37. عبس: 1. وراجع موقف عمر يوم صلح الحديبية، وحديث الصحيحين: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة». وحديث أبي داود وغيره عن الرجلين اللذين سافرا وتيمما ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما ولم يُعد الآخر. وكان الناس على عهد رسول الله يستفتون أهل العلم في نوازلهم فيقتونهم. ووردت تسمية أربعة عشر من هؤلاء (راجع التراتيب الإدارية ج1 ص 56 – 58).

وذكر الإمام أبو محمد بن حزم في «الإحكام في أصول الأحكام» (ج 5 ص 92 - 94). أنه لم ترو عن الصحابة الفتوى - في العبادات والأحكام - إلا عن مائة ونيف وثلاثين منهم فقط، من رجل وامرأة، بعد التقصي الشديد وهم بين مكثر منها، ومقل، ومتوسط. فالمكثرون سبعة، ويمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر ضخم والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا - رضي الله عنهم - ثلاثة عشر، ويضاف إليهم سبعة آخرون. والباقي منهم مُقلون في الفتيا، لا يُروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان، ونقله الإمام ابن قيم الجوزية في «أعلام الموقعين عن رب العالمين» (ج1 ص 9 - 11)
ارجع إلى القائمة...

وعن اجتهاد القاضي


يقول النبي (ص) في الحديث الصحيح الذي رواه كثير من الصحابة، وأخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عشر مرات: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم ثم أخطأ فله أجر
ارجع إلى القائمة...

الاجتهاد الجماعي فيما لا نص فيه على عهد رسول الله (ص)


وإذا كان هدف الإسلام هو تكوين مجتمع إسلامي - كما سبق القول - والعمل على ضمان استمراره عبر الأجيال والأمم والأقطار، فمن الواضح البين أن يكون للجماعة دور أساسي في هذا الميدان. وهكذا أنزل الله على سوله - وهو ما يزال في مكة - سورة الشورى، ومدح المؤمنين فيها، بأنَّ ]الشورى: 38[. وجعل نظام الأسرة قائماً على الائتمار والتشاور، فقال في تحديد أجرة إرضاع الوالدة ولدها: الطلاق: 6 وفي مدة الرضاعة البقرة: 233. وأمر رسوله في سورة آل عمران بمشاورة أصحابه: آل عمران: 159. وذكر في سورة النساء أن مع الرسول «أولي أمر» وأمر برد الأمر إلى الرسول وإليهم النساء: 83 وأمر في نفس الصورة بطاعة الله، وطاعة الرسول وأولي الأمر منا فقال: ]النساء: 59[ . وأخرج ابن عدي والبيهقي في «شعب الإيمان» بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت آل عمران: 159[ قال رسول الله (ص): «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غياً». وقد روت كتب الصحاح والسنن والسيرة كثيراً من أخبار استشارته (ص) لأصحابه، حتى روي عن أبي هريرة قوله: «ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من النبي (ص). وذكر المحب الطبري في «الرياض النضرة» أن الإسماعيلي أخرج في «معجمه» عن معاذ بن جبل أن النبي (ص) لما بعثه إلى اليمن استشارَ أناساً من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي، وطلحة والزبير وأسيد بن حضير، فقال أبو بكر: «لولا إنك استشرتنا ما تكلمنا». فقال (ص): «إني فيما لم يوح إلي كأحدكم، فتكلَّم القوم، فتكلم كل إنسان برأيه قال: ما ترى يا معاذ... الحديث. ولأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الحنفي (ت 370هـ) في «أحكام القرآن» كلام جيد في آية آل عمران: 159 فقد ذكر قول بعض أهل العلم: «إنما أمره بالمشاورة فيما لم ينص له فيه على شيء بعينه. وإن القائلين بذلك اختلفوا، فمنهم من يقول إنما هو في أمور الدنيا خاصة. وقال آخرون: كان مأموراً بمشاورتهم في أمور الدين التي لا توقيف فيها عن الله تعالى وفي أمور الدنيا مما طريقه الرأي وغالب الظن». ثم أفاض القول في الاحتجاج للقول الثاني، «وأن مشاروة النبي (ص) كانت فيما لا نص فيه، ولما لم يخص الله تعالى أمر الدين من أمور الدنيا في أمره بالمشاورة، وجب أن يكون فيهما جميعاً، وأن محاربة العدو ومكايدة الحروب هي من أمر الدين، ولا فرق بين اجتهاد الرأي فيه وبين أحكام سائر الحوادث التي لا نصوص فيها» (ج2 ص 48 – 50).
ارجع إلى القائمة...

اهتمام الإسلام بضمان آفاق المستقبل


أخرج الخطيب البغدادي في «رُواة مالك» والطبراني في «الأوسط» وأبو سعيد في «القضاء» وأبو عمر بن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (ج2 ص 59)، عن علي بن أبي طالب قال: «يا رسول الله، الأمر ينزل بنا بعدك، ولم ينزل به القرآن، ولم نسمع منك فيه شيئاً؟ قال: اجمعوا له العابدين - وفي رواية العالمين - من المؤمنين، واجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد» ومع أن ابن عبد البر عقب عليه بأنه لا يعرف له إلا سند واحد فيه راويان ليسا بالقَوِيَيْن وَلا مِمَّن يُحتجّ ولا يُعوَّل عليه، فإن السنة النبوية - كما تقدم - وسنة الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، قامت على هذا الأساس
ارجع إلى القائمة...

عهد الخلافة الراشدة


فقد أخرج الدارمي والبيهقي والبغوي وأبو عبيد في «كتاب القضاء» عن ميمون ابن مهران قال: «كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم - وفي رواية الخصوم - نظر في كتاب الله تعالى: «فإن وجد فيه ما يقْضِي به قضى به. وإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله (ص) قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: «قضى فيه بكذا وكذا. فإن لم يجد سنة سنها النبي (ص) جَمَعَ رؤساء الناس واستشارهم. فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به وكذلك كان يفعل عمر». ونقل القاضي عياض في «المدارك» أن الإمام مالكاً - أثناء كلام - وأن عمر بن الخطاب وعلياً، وعلقمة - خيار الصحابة - كانت ترد عليهم المسائل - وهم خير القرون الذين بعث فيهم النبي (ص) - وكانوا يجمعون أصحاب النبي (ص) ويسألون ثم حينئذ يفتون فيها (ج1 .ص 179 – 180) " وقال السرخسي في "المبسوط كان عمر يستشير الصحابة - مع فقهه - حتى كان إذا رفعت إليه حادثة قال: «ادعوا لي علياً، وادعوا زيداً... فكان يستشيرهم، ثم يقضي بما اتفقوا عليه». واستشارات عمر للصحابة عديدة، ومن أروعها ما ارتآه من عدم قسمة أراضي الشام والعراق على الفاتحين، وقوله لمن استشارهم من المهاجرين والأنصار: أنه يريد أن يشتركوا معه فيما حمل من أمورهم، «فإنني واحد كأحدكم ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هو هواي. معكم من الله كتاب ينطق بالحق، أرأيتم هذه الثغور؟ لا بد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام؟ لا بد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم...». وقد كان عمر يظن - وهو يخوض هذه المعركة الفكرية الحامية - أنه ليس في القرآن ما يدل لما ارتآه، ولكن الله ألهمه آية في القرآن، وهي قوله: { 9 : ؛ چ } ]الحشر: 10[ «فكيف نقسمه لهؤلاء وندع من تخلف بعدهم؟». ومنها استشارته الصحابة في الدخول للشام عندما بلغه أن بها الوباء، ورواية عبد الرحمن بن عوف له الحديث عن رسول الله بعدم دخولها. وقد كان عمر بن الخطاب قمة في الاجتهاد تتضاءل دونها قمة «الهملايا» ولست أريد هنا أن أتحدث عن اجتهادات عمر. ولكني أريد فقط أن ألفت النظر إلى منهج عمر بن الخطاب في التشريع: «دراسة متنوعة لفقه عمر وتنظيماته» بقلم الدكتور محمد بلتاجي، مدرس الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة ص 532، دار الفكر العربي 1390هـ = 1970م. وقد رجى في تصديرها أن تقدم لقارئها - من خلال فهم عمر بن الخطاب لنصوص الشريعة الإسلامية ومقرراتها العامة - تصوراً موضوعياً وحقيقياً لبعض ما يحتويه التشريع الإسلامي من خصوبة وثراء وإعجاز تجعله مُهيئاً - بصورة لا مثيل لها - لتحقيق مصالح الناس في كل عصر. وختمها بأنه ليس من المستحيل أن يوجد الرجل العمري الذي تتحقق فيه بعض صفات عمر، وتواتيه ظروفه، فيصلح الله به شأن الأمة، وتستعيد على يديه أمجادها، كما صلحت شؤونها على يد عمر، وما كان إلا رجلاً عربياً من خلق الله! بيد أننا نؤمن بما قاله عمر بن الخطاب: «من أن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها». وقد أثبت - عن طريق الدراسة والبحث - أن عمل عمر على تحقيق مصالح الناس، إنما كان في ضوء التزامه ابتداء - والمسلمين معه - بالنصوص الدينية في القرآن والسنة (ص65). وقد ذكر من بين مصادره: عمر بن الخطاب الفقيه المجتهد، للأستاذ الشيخ محمد أحمد السنهوري، محاضرات ألقيت على طلبة الدراسات العليا بكلية الحقوق. جامعة القاهرة، دبلوم الشريعة في العام الجامعي 1962 - 1963. وهكذا كان عصر الخلافة الراشدة امتداداً طبيعياً للعصر النبوي حيث واصل الصحابة رضوان الله عليهم المسيرة التي يبدأها الرسول (ص) ودربهم ورباهم على السير بها في الطريق الذي حدده الله لها. واذا كان العهد النبوي تحيطه هالة قداسة الوحي الإلهي وجلال النبوة، فإن الصحابة في عهد الخلافة الراشدة تحملوا بأنفسهم مسؤولية «الإمامة» الدينية و«الخلافة» عن الله في تطبيق المنهج الإلهي، محققين في ميدان الواقع صبغ الحياة الجديدة بالصبغة الإسلامية، مثبتين بذلك صلاحية هذا النظام للتطبيق عملياً في كل زمان ومكان عن طريق الاجتهاد الذي يحتمل الخطأ والصواب، غير محتاجين إلى إمام معصوم! ولم تكن اجتهاداتهم «البشرية» تحمل صفة القداسة التي يجب على بقية المسلمين اتباعها إلا اذا وقع إجماع الصحابة عليها، فإذ ذاك فقط تصبح بمنزلة ما ورد في القرآن والسنة النبوية، وهو ما عرف عند علماء الأصول بالإجماع وهو المصدر الثالث للتشريع. أما اجتهاداتهم التي لم يتفقوا عليها، فهي من جهة حجة على أن موضوعاتها ما تزال ميادين فسيحة للاجتهاد في المستقبل، وهي من جهة أخرى، إضافات قيمة للنصوص الشرعية يستطيع المجتهدون أن يستنيروا بها في تفهم روح الشريعة، ومحاولة تحقيق مصالح الناس المتجددة في نطاقها الشرعي
ارجع إلى القائمة...

فقهاء التابعين وتابعيهم


ولم يكن فضل فقهاء الصحابة قاصراً على المساهمة في تنظيم المجتمع الإسلامي والاجتهاد في التوفيق بين مصالحه المستجدة وبين النصوص الشرعية، بل كان من فضلهم أيضاً تكوين جيل من فقهاء التابعين يواصلون بدورهم حمل الأمانة إلى من بعدهم، فكان فقهاء في كل من: المدينة المنورة ومكة المكرمة، واليمن، واليمامة، والكوفة، والبصرة، والشام، وخراسان، ومصر، والقيروان، والأندلس. وأغنى فقهاء هذه الأمصار الثروة الفكرية الإسلامية بعملهم واجتهاداتهم التي جمع بعضها في عدة مجلدات. ويعكف كثير من طلبة الدراسات العليا في مختلف الجامعات الإسلامية على دراسة كثير من جوانب اجتهادات هذه المرحلة - قبل نشأة المذاهب - بل إن بعض هذه الدراسات، قد تم طبعها مثل موسوعة فقه إبراهيم النخعي (ص 158 و867) ضمن سلسلة فقه السلف، فقه اثنين وسبعين فقيهاً، ما بين صحابي، وتابعي، وتابع تابعي عدا الأئمة الأربعة وتابعيهم (جامعة مكة) ارجع إلى القائمة...

 من اليمين عبد الكريم غلاب ثم الفيلسوف عزيز الحبابي ثم القاضي محمد عبد الرحمن بن محمد الزمزمي الكتاني ثم الوزير محمد الفاسي ثم الزعيم علال الفاسي وخلفه العلامة محمد المنوني ثم بجانب علال الفاسي العلامة محمد ابراهيم الكتاني ثم الأستاذ عبد الله بناني ثم الدكتور ادريس الكتاني

اختفاء الاجتهاد الجماعي


وما أن انتهت أيام الخلافة الراشدة حتى اختفى الاجتهاد الجماعي، لأن بني أمية ألغوا الشورى، فعكف الفقهاء في المساجد على الاجتهاد الفردي النظري، بعيدين عن الحياة اليومية التي كان لتفاعل الاجتهاد معها في عصري النبوة والخلافة الراشدة دور فعال في إغنائه وحيويته. قال المرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه «مصادر التشريع الإسلامي» فيما لا نص فيه: «وكان من الحكمة والمصلحة أن يستمر هذا النظام، وأن يكون إلى جانب كل خليفة أو وال من خلفاء المسلمين وولاة أمورهم «جماعة تشريعية» مكونة من رؤوس المسلمين وخيارهم يرجع إليهم في حكم ما يجد من الحوادث مما ليس فيه قرآن ولا سنة، ويعمل بما اتفقوا عليه. وأن يتطور هذا النظام بوضع نظام لاختيار أعضاء هذه الجماعة ممن يوثق بعلمهم بالدين وبصرهم بشؤون الحياة، ونظام لكيفية اجتماعهم وتشاورهم وقانونية الحكم الذي اتفقوا عليه. ولو وقع ذلك لما جمد التشريع الإسلامي، ووقف عن مُمَاشاة الزمن وعن التطور بتطور المسلمين (165- 168).
ارجع إلى القائمة...

نشأة الثقافة العربية لخدمة القرآن وتمكين دارسيه من فهمه واستنباط الأحكام منه.


فجُمع الأدب العربي واللغة العربية، ووضع النحو والبلاغة، وجمع الحديث النبوي وآثار الصحابة. وألف إمام أهل المدينة مالك بن أنس كتاب «الموطأ» وهو أقدم كتاب وصل إلينا في فقه أهل السنة، جمع فيه ما صح عنده من الحديث النبوي وفقه أهل المدينة وما عليه عملهم. و«في ترتيب المدارك» (2/73) أن أبا جعفر المنصور هو الذي أشار على مالك بتأليف الموطأ ونصحه بأن يتجنب فيه شدائد عبدالله بن عمر ورخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود. ويقصد أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة، وفي خبر آخر (2/72) أن أبا جعفر المنصور أراد أن يجمع الأمة عليه فقال له مالك: «إن أصحاب رسول الله تفرقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما رأى». وممن أخذ الموطأ عن مالك إمام الأحناف ومؤلف الكتاب العديدة في مذهبهم محمد بن الحسن الشيباني. وروايته للموطأ من أهم المصادر المعتمدة عند الأحناف، وشرحها الكثير منهم، وهي مطبوعة. وممن أخذها عنه أيضاً تلميذه العظيم الإمام محمد بن إدريس الشافعي وكثيرمن أحاديث مسنده مروي عنه، وهو مطبوع في القاهرة. كما أن كثيراً من أحاديث الموطأ مروية في صحيحي البخاري ومسلم - وهما أصح كتب الحديث النبوي - ومسند أحمد، وبقية كتب السنن.
ارجع إلى القائمة...

أصول الفقه


وكانت الفقرة الصاروخية الجبارة التي حققتها الثقافة العربية الإسلامية في ميدان الدراسات الاجتهادية، هي تأليف الإمام الشافعي رحمه الله لكتابه «الرسالة» التي وضع فيها منهجاً علمياً محدداً مضبوطاً لتنظيم عملية الاجتهاد تنظيماً محكماً. وقد لاحظ الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتاب الرائد «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» إن موضوع الاجتهاد بالرأي الذي ينظم أصول الفقه ويقرر قواعده، هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين، وأن هذه الناحية هي أقل نواحي التفكير الإسلامي تأثراً بالعناصر الأجنبية (ص 123) وبين ما في «الرسالة» من مظاهر التفكير الفلسفي (ص 244 - 245). كما أفاض الدكتور علي سامي النشار في «مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، في الحديث عن صلة «الرسالة» بالبحث الفلسفي، واعتبار الشافعي في العالم الإسلامي وفي الدراسات الإسلامية مقابلاً لأرسطو في العالم الهليني وفي الدراسات اليونانية (ص64). كما اعتبر هذه الناحية هي الناحية المعبِّرة عن الحضارة الاسلامية كلها، والتي يمكن أن يُستمَد منها الطابع الأساسي المميز للحضارة الإسلامية (ص 237). وإذا كان قول النشار عن الشافعي أنه أعظم شخصية أنجبها الإسلام، قابلاً للمناقشة فإن الأمر الذي لا شك فيه أن الشافعي كان عبقرية غير عادية، وأن الإسلام يستطيع أن يباهي به كبار عباقرة الدنيا في كل العصور. وقال النشار في «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» (ج1، ص54) عن علماء الأصول إنهم أنتجوا تفكيراً منطقياً جديداً، وكشفوا عن المنهج التجريبي، الذي عرفته أوروبا بعد ذلك وسارت في ضوئه إلى حضارتها.
ارجع إلى القائمة...

شروط الاجتهاد


ونظراً لهذه القيمة العظمى للإمام الشافعي بصفته «فيلسوف الاجتهاد في الإسلام» فإني أنقل هنا عن «الرسالة» ما قاله عن الشروط التي يجب توفرها فيمن يمكنه ممارسة الاجتهاد، سواء من الناحية العلمية أو التكوين العقلي. ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله، وجهة العلم بعد الكتاب والسنة والآثار، وما وصفت من القياس عليها». «ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله فرضه وأدبه وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه، وشاذه. ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله، فإذا لم يجد سنة فإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماع فالقياس. ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبلَه من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلافهم، ولسان العرب. ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرق بين المشتبه ولا يعجل بالقول به دون التثبيت». ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه لأنه قد ينتبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزداد به تثبيتاً فيما اعتقد من الصواب. وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده والإنصاف من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول وترك ما يترك». «ولا يكون بما قال أعني منه بما يخالفه حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك إن شاء الله». «فأمّا من تم عقله، ولم يكن عالماً بما وصفنا فلا يحل له أن يقول بقياس، وذلك أنه لا يعرف ما يقيس عليه». «كما لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم ولا خبرةً له بسوقه». «ومن كان عالماً بما وصفنا بالحفظ لا بحقيقة المعرفة، فليس له أن يقول أيضاً بقياس لأنه قد يذهب عليه عقل المعاني، وكذلك لو كان حافظاً مقصر العقل أو مقصراً عن علم لسان العرب، لم يكن له أن يقيس من قبل نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس». «ولا نقول يسع هذا - والله أعلم أن يقول أبداً إلا اتباعاً، لا قياساً». وقد علق محقق «الرسالة» العلامة الكبير أحمد محمد شاكر، رحمه الله على هذا النص بقوله: «وهذه الدرر الغالية، والحكم البالغة، والفقر الرائعة، هي أحسن ما قرأت في شروط الاجتهاد» (ص 509 ط. الحلبي 1358 هـ. الفقرات 1468 - 1479). وفي الملحق (1)، نص حديث في نفس الموضوع للمرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف.
ارجع إلى القائمة...

مقاصد الشريعة


واستمر الأصوليون والمتكلمون حوالي ستة قرون بعد الإمام الشافعي عاكفين على ترديد ما قاله الشافعي وشرحه والتعليق عليه، إلى أن بدأ بعض المجتهدين حوالي القرن الثامن الهجري يحومون حول إتمام ما ظهر من نقص في منهاج الشافعي. وجاء إكماله من أقصى الغرب الإسلامي على يد الإمام الكبير أبي إسحاق الشاطبي الأندلسي الغرناطي في كتابه العظيم «الموافقات». وهنا أترك الكلمة لصديقنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة - الذي أغنى المكتبة الاجتهادية بثمانية كتب عن الأئمة المتبوعين. فقد قال في كتابه: «الشافعي، حياته وعصره، آراؤه وفقهه» (ص346، ف230): «... إن علماء الأصول - من لدن الشافعي - لم يكونوا يتجهون إلى بيان «مقاصد الشريعة» وما تتجه إليه في جملتها وفي تفصيلها من أغراض ومعان، وإن ذكروا حكماً وأوصافاً مناسبة في بيان القياس أقلوا في القول ولم يستفيضوا فيه، لأنهم يعتبرون الأحكام منوطة بعللها لا بأوصافها المناسبة وحكمها. وبذلك كان بيان «المقاصد العامة للشريعة» التي جاءت من أجلها الأحكام، وارتبطت بها مصالح الناس بالمحل الثاني عندهم، فكان هذا نقصاً واضحاً في «علم أصول الفقه» لأن هذه المقاصد هي أغراض الفقه وهدفه. ولقد وجد في عصور إسلامية مختلفة علماء يسدون ذلك النقص، ويجلون هذه الناحية في بحوث كتبوها ورسائل دونوها. فكان لابن تيمية في هذا جولات صادقة. ولابن القيم - تلميذه - كتابات مستفيضة في هذا في شتى كتبه، وخصوصاً «أعلام الموقعين عن رب العالمين». والمعز بن عبد السلام في «قواعده» اتجاه صادق، فجلى جزءاً كبيراً من أغراض الشارع ومقاصده وسار في ذلك خطوات شاسعة. ولقد حمل العبء كاملاً، وأوفى على الغاية أو قارب، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي الفقيه المالكي، المتوفى سنة 790هـ= 1388 م في كتابه «الموافقات» فقد بين مقاصد الشرع الإسلامي بياناً كاملاً، وربط بينها وبين قواعد الأصول وتكلم في مصادر ذلك الشرع على ضوء مقاصده وغاياته، وبذلك فتح طريقاً جديداً في علم الأصول، وهو الطريق الذي يجب أن يكون.
ارجع إلى القائمة...

وانقطع الاجتهاد


إذا كان إلغاء نظام الشورى الإسلامي لم يحل بين الفقهاء المجتهدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وبين مواصلة اجتهادهم الفردي، فإنه قد أثر أثراً بالغاً على عملهم نفسه. ذلك أن النظام الإسلامي مرتبط ارتباطاً عضوياً بالممارسة اليومية، كما سبق أن لاحظنا عند الحديث عن المرحلتين النبوية والراشدية، وإقصاء المجتهدين عن ميدان التوجيه والمواءمة بين النصوص الشرعية وبين تحقيق مصالح المجتمع الإسلامي الذي هو الهدف المقصود من شريعة الإسلام، جعلهم يتجهون بصفة خاصة إلى الميدان النظري، والبعد شيئاً فشيئاً عن ميدان الممارسة. وكثرت المناهج الفقهية وتنوعت، وأهمها فقه الحجازيين وفقه العراقيين وشَعَر أهل كل جهة أنهم في حاجة إلى معرفة ما عند الآخرين، ومن أصول منهج مالك في الاجتهاد مراعاة الخلاف. وقد جاء حماد وَلَدُ أبي حنيفة للأخذ عن مالك، وكان مالك يسأله أحياناً: «هل سمعت من أبيك في هذه المسألة شيئاً؟» وقضى محمد بن الحسن بالمدينة حوالي ثلاث سنوات يأخذ عن أهلها ويناقشهم ويحاورهم، واجتمع أبو يوسف مع مالك بالمدينة وذاكره ورجع عن بعض آراء شيخه أبي حنيفة إلى رأي مالك. وألف محمد بن الحسن «كتاب الحجة على أهل المدينة» وقد طبع في الهند القطعة الموجودة منه في أربعة أجزاء - مع شرح - ويقول ناشره إنها نحو نصفه. كما ألف الشافعي «الرد على محمد بن الحسن» دافع فيه عن رأي مالك في مسائل انتقدها عليه ابن الحسن. وكان الأئمة المجتهدون حريصين على أن يُكوّنوا في أنفس طلبتهم ملكة الاستقلال الفكري. فكانوا، وهم يدربونهم على الاجتهاد، يَنهونَهم عن تقليدهم ويلحون عليهم في وجوب الاعتماد على الدليل والبرهان، والأقوال المروية في هذا، عن مالك وأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن والشافعي، وأحمد بن حنبل وغيرهم متواترة. ونشأت جماعة من المجتهدين المختارين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كما أمر الله، فيتبعون ما قام لهم الدليل على صحته من غير التقيد برأي إمام واحد، على أساس أن الاجتهاد الإسلامي متكامل، مصدره واحد، وهدفه واحد، وهو محاولة تحقيق مصالح الجماعة الإسلامية في نطاق التوجيه الإلهي في القرآن والسنة، وذلك هو منهج جميع فقهاء أهل السنة والجماعة رحمهم الله. ولكن بعض الطلبة بهرتهم شخصية أستاذهم، فتجاوزوا في تعظيمه الحد المشروع، وصاروا يعتبرون كل ما قاله حجة، وكونوا تكتلاً فيما بينهم، فكانت المذهبية وكان التقليد والتعصب. وكان للمذهبية إيجابياتها وسلبياتها، فمن إيجابياتها في المغرب العربي، أنها كانت حركة شعبية ساعدت الشعب على مواجهة التيارات الهدامة الهادفة إلى تفريق كلمة الجماعة، والانحراف بها عن الاتجاه السُّني الصحيح، مثل الشيعية الغالية والخارجية وغيرها. وكان من سلبياتها الخطيرة أن التعليم في نطاق المذهب أبطل واجباً شرعياً، وهو اشتراط الاجتهاد في القاضي - مثلاً - فاعتبره الفقهاء شرطاً ملغى لانعدام المجتهدين.
ارجع إلى القائمة...

الدعوة إلى الاجتهاد ومحاربة التقليد


واستمرت الدعوة - طوال العصور - للاجتهاد ومدارسة الشريعة في مصادرها الأساسية، وتجلت بصفة خاصة في دراسة الحديث النبوي، والعمل بالأحاديث التي خالفها المذهب. وكان للحملة الشرسة التي أثارها في الأندلس الإمام الحافظ أبو محمد ابن حزم الظاهري ضد التقليد أثرها العميق في الفكر الإسلامي مغرباً ومشرقاً، فانتعشت الدراسات الحديثية والأصولية، وقد ساعدته عبقريته الجبارة وثقافته الموسوعية، على أن يفرض نفسه على تاريخ الفكر البشري، فهو واضع علم تاريخ الأديان الذي أثر تأثيراً عميقاً على زعزعة سلطان الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى، (راجع محمد إبراهيم الكتاني: هل أثر ابن حزم في الفكر الأوروبي في القرون الوسطى؟ مجلة «البيئة» العدد 2، ذو الحجة 1381هـ يونيه 1962. ص 68 - 87). وكان شيخ الإسلام ابن تيمية أعظم مجتهد أنجبه الإسلام بعد أئمة المذاهب، وكان عميق المعرفة بتفسير القرآن، محدثاً حافظاً أصولياً ناقداً، فقيهاً عارفاً بآراء الفقهاء من مختلف المذاهب إلى جانب معرفته بآراء مختلف الفرق، وهو ناقد المنطق الصوري، من وجهة نظر عقلية، بعدما بقي العلماء سنين طويلة يقتصرون على إصدار الفتاوى بتحريمه. وقد اضطُهد رحمه الله من أجل دعوته لإحياء الاجتهاد حتى إنه توفي في السجن لرفضه التخلي عن آرائه الاجتهادية. وكان له فضل عظيم على الدعوة للاجتهاد في مختلف أنحاء العالم الإسلامي وخصوصاً في العصر الحديث. وبذل السلطان محمد بن عبدالله العلوي رحمه الله، بالمغرب، جهوداً كبيرة في العمل على نشر دراسة الحديث في مدينة مراكش وغيرها، وألف بنفسه التآليف، وندب الفقهاء لشرح كتب الحديث، وأرشد للرجوع إلى كتب الأقدمين ونبذ كتب المتأخرين من المختصرات المعقدة الركيكة. وفي عصره، أنجبت جامعة القرويين بفاس، الإمام محمد بن علي السنوسي دفين جغبوب، داعية العمل بالحديث النبوي وصاحب التآليف المهمة في هذا الموضوع.
ارجع إلى القائمة...

وجاء الاستعمار


وكان الهدف الأساس للاستعمار الصليبي في جميع أنحاء العالم الإسلامي هو تحويل المسلمين عن دينهم إلى النصرانية أو الإلحاد واللائكية وأشباهها، بدعوى أن الإسلام لا يتناسب مع العصر الحديث. وساعده على ذلك ما كان عليه الفكر الإسلامي في جميع أنحاء العالم الإسلامي من تخلف وانحطاط. كما كان لجمود الفقه الإسلامي وتحجره وعجزه التام عن مواجهة المرحلة الخطيرة التي يوجد فيها الإسلام هدفاً للإبادة المنظمة بعد أن أصبح أعداؤه يقتلعون جذوره من نفوس الأطفال والشباب. وارتفعت صيحة الانبعاث الإسلامي هذه المرة - بعد موت حقيقي استمر عدة أجيال - من أفغانستان، حيث دعا موقظ الشرق جمال الدين الأفغاني جماهير المسلمين إلى أن يواجهوا الاستعمار الصليبي مجتمعين، فيثوروا ثورة واحدة من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه، مستمدين القوة والتوجيه من القرآن الذي خلق أمتهم من العدم. وألف رسالة «الرد على الدهريين» بين فيها خطر الإلحاد واللائكية على المجتمعات البشرية. وقد ساعدته معرفته باللغات الأوروبية وجولاته فيها، وفي الولايات المتحدة، وروسيا على معرفة حقيقة مبلغ التخلف الفكري الذي يتردى فيه المسلمون، فاهتم بالدعوة إلى محاربة التخلف، واكتساب أسباب القوة الفكرية والاجتماعية، فدعى إلى إحياء الاجتهاد وإحياء نظام الشورى الإسلامي، واعتبر أن النظام البرلماني الأُوروبي أقرب الأنظمة إلى الشورى الإسلامية. وعلى العكس من ذلك لاحظ خطر الدعوة الاشتراكية الحديثة، ودعى إلى إحياء تقاليد الاشتراكية العربية والعدالة الاجتماعية الإسلامية. ــــ وأسس مع تلميذه ومريده محمد عبده جمعية سرية للعمل على تحقيق هدف التحرير الذي يعمل له، هي «جمعية العروة الوثقى» تضم أعضاء منبثين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وأصدر مع محمد عبده بباريس مجلة باسمها كان لها تأثير عظيم في أفكار قرائها في مختلف البلاد العربية، مع أنها لم تصدر منها إلا أعداد قليلة، لعجزها عن الإنفاق عليها. ــــ ولم يلبث أن اختلف مع محمد عبده، الذي رأى أن المسلمين عاجزون عن الاستجابة لهذه الدعوة، بعد أن انقطعت صلتهم بالعمل بالقرآن والخضوع لتوجيهاته، وأنه يجب العمل أولاً على ردهم إلى القرآن، وتعريفهم بالإسلام الصحيح الذي يجهلونه، ونفذ بنفسه الخطة التي اقترحها فجدد في الدراسات القرآنية، ودعا إلى تحكيم القرآن وعدم التحكم عليه. ودرس جيداً «الموافقات» واستفاد منها على نطاق واسع، وألف وحاضر وكتب المقالات والفتاوى. ودعا إلى نبذ كتب المتأخرين، والاستعاضة عنها بما كتبه علماء عصور النهضة الإسلامية، ودافع عن الإسلام، ولخص منهجه كله في كلمة واحدة هي التربية الإسلامية العملية، فاتجه إلى إصلاح الأزهر. وفكر في تأسيس «دار الدعوة والإرشاد» لتكوين الدعاة والمرشدين. ــــ وقد أسسها بعده تلميذه رشيد رضا، وتعلم فيها بعض المغاربة. ــــ ودعا إلى نشر كتب المجتهدين، وكتب للسلطان المولى عبد العزيز رحمه الله، ولقاضي فاس يطلب مخطوطات «المدونة» لنشرها. ــــ وساهم السلطان عبد الحفيظ في المغرب وبعض الناشرين المغاربة بنشر بعض الكتب داخل المغرب وخارجه. ــــ كما نشر بطل التحرير محمد الخامس رحمه الله، على عهد الحماية، ووزارة الأوقاف بعد استقلال المغرب ــــ وما تزال ــــ بعضاً آخر. ــــ كما أسس تلميذ محمد عبده السيد الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله مجلة «المنار» لتواصل عمل «العروة الوثقى». وقد استمرت في نشاطها اثنتين وثلاثين سنة، وقد اهتمت بموضوع إحياء الاجتهاد اهتماماً كبيراً، ونشرت من كتب التراث الاجتهادي عدداً كبيراً. ــــ وحمل هذه الدعوة إلى المغرب شيخنا الشيخ أبو شعيب الدكالي رحمه الله. فأحيا دراسة تفسير القرآن بعد انقطاعها مدة طويلة، ودرس صحيح البخاري في فاس ومراكش والرباط. وساعده علمه الواسع بتفسير القرآن وعلومه، وبعلوم الحديث والفقه والأدب العربي على أن جمع حوله نخبة من الطلبة، كما ساعده ترؤسه للدروس السلطانية على عهد السلاطين، المولى عبد الحفيظ، والمولى يوسف ومحمد الخامس رحمهم الله، على تبليغ الدعوة للعلماء الذين كانوا بعيدين عنها. ــــ وعلى يديه تكون شيخنا محمد بن العربي العلوي رحمه الله، وتثقف ثقافة اجتهادية متينة. وكان رحمه الله علامة موسوعياً، فقيهاً متين الثقافة، محدثاً ناقداً مفسراً لغوياً أديباً مصلحاً داعيةً، مجتهداً مجاهداً بطلاً. ــــ ويقتضيني واجب الوفاء بالجميل، أن أعترف ــــ بهذه المناسبة بفضله الكبير علينا بتحريرنا من ربقة الخرافة والجمود والتقليد والتعصب للمذهبيين، وما بذله معنا من جهود مضنية لتدريبنا على الاجتهاد الشرعي السليم، وإرشادنا إلى قراءة مؤلفات سلفنا الصالح من رجال العصور الإسلامية الزاهرة، ورجال الانبعاث الإسلامي الحديث وتنبيهنا لعيوب مؤلفات عصور التدهور والخرافة والتقليد والتعصب. فجزاه الله عنا وعن دينه وبلاده وأمته خير الجزاء. ــــ ورحم الله أصدقاءنا وزملاءنا الذين استفادوا معنا من تربيته في هذا المجال: محمد غازي وعلال الفاسي وعبد العزيز بن إدريس العمروي ومحمد المختار السوسي والصديق العلوي. ــــ راجع العلال الفاسي: 1 ــــ النقد الذاتي. 2 ــــ دفاع عن الشريعة. 3 ــــ مقاصد الشريعة. 4 ــــ معركة اليوم والغد. وراجع عن فكر علال: 1) أحمد حماني، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر: «محمد علال الفاسي المجدد المجتهد». («الأصالة»، مجلة تصدرها وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية الجزائر)، السنة الثانية العدد 20، ربيع 2/1394هـ. ماي 1974م، ص 153 ــــ 190. 2) فهمي جدعان دكتور الدولة في الآداب (السوربون)، وأُستاذ الفلسفة والفكر العربي بالجامعة الأُردنية: «أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث» ص 333 ــــ 338 ص 372 ــــ 379. ــــ وأسمح لنفسي بهذه المناسبة ــــ أن أتحدث عن مجتهد مغربي متأخر، لم ينشر عنه شيء إلى الآن، مع أن دواعي الحديث عنه كثيرة كما سنرى. ذلك هو الشيخ محمد حسنّا ــــ بتشديد النون ــــ دفين مدرسة فاس، ابن الشيخ محمد ماء العينين الشنقيطي الشهير ــــ دفين تزنيت. فقد كان الشيخ حسنّا ينكر تقليد أي مذهب من المذاهب الأربعة ويرى العمل بالحديث وحده. في ذلك يقول: لست لمالك، ولا للشافعي ولا لحنبل ولا للرابع بل اتباعي للنبي الشافع وأسأل العفو لكل تابع 131 ــــ وكان لوالده الشيخ ماء العينين ميول اجتهادية تنبىء عنها بعض مؤلفاته المطبوعة بفاس. ــــ وكان الشيخ ماء العينين ممثلاً لسلطان المغرب في الصحراء، وعندما هجم الجيش الفرنسي على إقليم شنچيط جنّد الشيخ متطوعين من الصحراء بقيادة ولده محمد حسنّا هذا ليقاوموا المعتدين، مع الجيش المغربي الذي وجهه السلطان المولى عبد العزيز رحمه الله. ثم جاء إلى فاس في طريقه إلى الحج ولما احتلها الجيش الفرنسي سجنه، وأدركه أجله بعيد إطلاق سراحه ــــ فيما أظن ــــ بقليل 1334هـ أو 1335. وهو مدفون بزاوية والده بدرب السراج بالطالعة، رحمه الله. ــــ وأذكر بهذه المناسبة أنه زارني مرة أحد الحُزميين، وأثناء المذاكرة وجه إليَّ سؤالاً إنكارياً بأنه يلاحظ علي أني لا ألتزم بجميع آراء ابن حزم. فأجبته بأن هذه ليست مسألة مطروحة بل المسألة المطروحة على المسلمين اليوم هي إحلال قوانين إسلامية مكان القوانين الوضعية الأجنبية التي فرضها الاستعمار على الأُمم الإسلامية، بحيث تكون هذه القوانين محققة لمصالح المسلمين المستجدة، وهم يستطيعون أن يحققوا هذا الهدف الإسلامي الملح والمستعجل، عن طريق الاستفادة من اجتهادات الفهاء المسلمين الأقدمين، من جهة، بما فيهم ابن حزم نفسه أو من اجتهادات جديدة لمواجهة الحالات التي جدت اليوم في الدنيا ولم تكن معروفة من قبل، في نطاق النصوص والقواعد الشرعية الخالدة. ــــ أي أننا اليوم في حاجة إلى تطبيق منهج الاجتهاد الشرعي الذي قننه الشافعي والشاطبي ومارسه ابن تيمية وابن قيم الجوزية وأمثالهما ودعا إلى إحيائه عشرات المفكرين المسلمين المحدثين. وهو اجتهاد مضبوط بالقواعد المحددة، وفي نفس الوقت متفتح على مختلف التجارب الاجتهادية السابقة، وقابل في نطاق المستقبلية الاجتهادية، لإضافة تجارب جديدة لا نهاية لها. وتلك هي، بدون استثناء، أعظم معجزة خالدة للقرآن العظيم، الذي تضمنت خمسمائة آية منه أحكام كل ما يجد في الدنيا إلى آخر الدهر من حوادث ومستجدات، والتي أوجب الله على المجتهدين المسلمين أن يستنبطوا من القرآن أحكام كل ما يستجد منها في كل زمان. وتلك هي الضرورة الشرعية الحتمية المستعجلة لإحياء الاجتهاد الذي تطالب به توصية «ندوة الأكاديمية».
ارجع إلى القائمة...

ثلة من العلماء في لقاء مع الرئيس الشادلي بن جديد

ــــ كيف نحيي الاجتهاد؟


والآن: كيف نحيي اجتهاداً انقطع منذ قرون؟ ولعلنا بعد هذه الجولة الطويلة القصيرة في نفس الوقت، في علم الاجتهاد وآفاقه وميادينه وشروطه ومناهجه، نستطيع أن نرسم بوضوح معالم محددة للعمل على السير بخطى ثابتة لإحيائه من جديد بعدما حنَّطناه قروناً طويلة. ــــ فآيات الأحكام معروفة بأعيانها، محفوظة ضمن القرآن الذي حفظه الله لنا غضًّا طرياً كأنما أُنزل الآن. والسنة النبوية المبينة له معروفة مضبوطة بفضل التوفيق الإلهي الذي هيأه لأئمة الحديث ــــ رحمهم الله وجزاهم أحسن الجزاء ــــ فهي الآن بين أيدينا «ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك» كما قال ((ص)). واللغة العربية التي كتب لها الخلود بفضل القرآن، قد تضافرت جهود الأجيال المتعاقبة، من العرب والعجم قديماً وحديثاً، على خدمتها واستحداث الوسائل لتسهيل تعليمها لغير العرب. ومناهج الاجتهاد الإسلامي العلمية العقلية المضبوطة ما تزال بين أيدينا في مصادرها الأُولى ــــ بما فيها مقاصد الشريعة ــــ قبل أن تمسخها وتشوهها عصور الانحطاط والتقليد والجمود والتخلف في المختصرات والأنظام المعقدة التي لا حياة لها، وفي المؤلفات الحديثة العديدة التي ألفها أنصار إحياء الاجتهاد في العصر الحديث، وتجارب المجتهدين من فقهاء الإسلام ــــ قبل نشأة المذاهب وبعدها ــــ عبر الأجيال والعصور، محفوظة يستطيع الدارس أن يتعرف عليها ويستفيد منها في مسايرة الخط الإسلامي السليم في الاجتهاد. والموهبة العقلية الخاصة التي اشترطها الإمام الشافعي فيمن يجوز له ممارسة الاجتهاد شرعاً ما تزال موجودة بين المتعلمين من المسلمين على نطاق واسع، ولله الحمد. ــــ ومن الواضح أن هذه الحصيلة الثقافية المحددة في كلام الشافعي وعبد الوهاب خلاف مثلاً ــــ تتطلب إعداداً خاصاً وتكويناً فنياً، وتلك مسؤولية الدولة التي تكوِّن الأطر التي تحتاجها في كثير من الميادين. فيجب عليها ــــ شرعاً ــــ أن تولي هذه المسألة التي وضحنا مبلغ أهميتها القصوى من الناحية الدينية والحضارية والفكرية «والمستقبلية» بالنسبة لحياة الجماعة الإسلامية وحيويتها وفعاليتها وضمان مستقبلها، ما هي جديرة به من عناية واهتمام، وذلك بتكوين فئة من الطلبة تكويناً تقنياً على أساس البرنامج المحدد، وهو تكوين يتطلب عدة سنوات ــــ كما هو واضح. ولعل ذلك يتطلب ــــ فيما يبدو ــــ تأسيس مركز دراسي خاص: معهدٍ أو مدرسةٍ أو غير ذلك من الأسماء بحيث يكون هدفها هو هذا التكوين. أما المؤسسات التعليمية بالمغرب فهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببرامج التعليم الأجنبية، وذلك ما يجعلها بعيدة عن أن تقوم بدور مساعد في هذا الموضوع. ولعل من الممكن ــــ على المستوى البعيد ــــ أن تحور الوزارة برامج تعليمها بحيث يتعلم التلميذ ثم الطالب أجزاء من البرنامج المحدد، يستطيع بعدها في مرحلة لاحقة أن يتم تخصصه في هذا الميدان. ومن شأن تحديد الآيات والأحاديث التي على طالب الحصول على مَلَكَةِ الاجتهاد أن يدرسها دراسة مستوعبة ومتعمقة، بصفتها مصدراً للتشريع، أن يقْصِيَ عن التحكُّك بهذا الميدان، كثيراً من الدارسين لنواح أخرى من الدراسات القرآنية والحديثية ونواح أخرى غير هذه الناحية المحددة. دعك ممن تخصصوا في نواح أخرى لا صلة لها بهذا الميدان. ــــ وأعود مرة أخرى إلى الشيخ عبد الوهاب خلاف رحمه الله، فأنقل قوله: «الذين لهم حق الاجتهاد بالرأي هم «الجماعة التشريعية» التي توافرت في كل واحد منهم المؤهلات التي قررها علماء الشرع الإسلامي، فلا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد مهما أوتي من المواهب واستكمل من المؤهلات، لأن التاريخ أثبت أن الفوضى التشريعية في الفقه الإسلامي كان من أكبر أسبابها الاجتهاد الفردي. ولا يسوغ الاجتهاد لجماعة توافرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته، إلا بالطرق والوسائل التي مهَّدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي والاستنباط فيما لا نص فيه». «فباجتهاد الجماعة التشريعية المتوافرة في أفرادها شرائط الاجتهاد، تُنْفَى الفوضى التشريعية وتشعب الاختلافات. وباستخدام الطرق والوسائل التي مهَّدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي يؤمن الشطط، ويسار على سنن الشارع في تشريعه وتقنينه. ــــ ومن الواضح أن قول الشيخ عبد الوهاب خلاف إنه لا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد، معناه أنه لا يسوغ العمل باجتهاد فرد. أما الاجتهاد النظري فإنه لا يمكن لأحد المنع منه. فمن جهة لا يمكن لطالب العلم أن يصير مجتهداً إلا بعد أن يمارس الاجتهاد مرات عديدة، يخطىء في بعضها ويصيب في بعض آخر، كما هو أمر بديهي. ومن جهة أخرى فإن من درَس مسألة وأدَّاه اجتهاده إلى حكم مُعيَّن لا يمكن لكائن منْ كان أن يحوَّل فكره عما اقتنع به. نعم، إذا تدارست المسألة هيئة محترمة، جميع أفرادها ممن توفرت فيهم شروط الاجتهاد، واتفقت على رأي مغاير، فإذ ذاك ينبغي له أن يتخلى عن رأيه احتراماً لرأي الجماعة. ــــ وممن أيد وجوب الاجتهاد الجماعي خاتمةً أئمة فقهاء المالكية غير منازع الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور التونسي رحمه الله. فقد قال في كتابه «مقاصد الشريعة»: «وإن أقل ما يجب على العلماء في هذا العصر أن يبتدئوا به من هذا الغرض العلمي أن يسعوا إلى عقد مجمع علمي يحضره أكبر العلماء بالعلوم الشرعية في كل قطر إسلامي على اختلاف مذاهب المسلمين في الأقطار. ويبسطوا بينهم حاجات الأُمة ويصدروا فيها عن وفاق فيما يتعين على الأُمة عمله، ويُعلموا أقطار الإسلام بمقرراتهم، فلا أحسب أحداً ينصرف عن اتِّباعهم. ويعينوا يومئذ أسماء العلماء الذين يجدونهم قد بلغوا رتبة الاجتهاد أو قاربوا، وعلى العلماء أن يقيموا من بينهم أوسعهم علماً، وأصدقهم نظراً في فهم الشريعة فيشهدوا لهم بالتأهيل للاجتهاد في الشريعة». «ويتعين أن يكونوا قد جمعوا إلى العلم العدالة واتباع الشريعة، لتكون أمانة العلم فيهم مستوفاةً، ولا تتطرق إليهم الريبة في النصح للأُمة» (ص 139 ــــ 141). ــــ وممن نادى بوجوب الاجتهاد الجماعي الدكتور محمد سلام مذكور في موسوعته الضخمة الحافلة ــــ التي قال إنه لم يسبق إليها «مناهج الاجتهاد في الإسلام»، فقد قال: «غير أننا نرى ــــ مقاومة للهوى والادعاء غير الصادق الذي ينبني عليه التلبيس في أحكام الشريعة والتضليل في عرض الكلام ــــ أن يكون ذلك الاجتهاد في ظل الاشتراك بين أولي الأمر من العلماء مما يسمى اجتهاداً جماعياً» (ص 425). ــــ ومنهم الشيخ مصطفى الزرقاء في كتابه «الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد» ــــ المدخل الفقهي العام ــــ وسماه «اجتهاد الجماعة» على طريقة الشورى العلمية في مؤتمرات فقهية تضم فحول العلماء من مختلف المذاهب والأقطار، ثم ذكر أن الاجتهاد المالكي قد أخذ بمبدأ هذه الشورى العلمية بين علماء كل زمن في تعديل الأحكام الفقهية عندما يتبدل فيها عرف الناس ومقاصدهم العلمية، ثم أحال في التعليق على محاضرة للمؤرخ الكبير رفيق بك العظم رحمه الله عن قضاء الجماعة وقضاء الفرد. (ج 1 ص 192 ــــ 194). ــــ وكان تفسير المنار بدأ القول في ذلك وأعاده في تفسير آية { ] ء _ } ]النساء: 59[ (ج 5 ص 180 ــــ 194 ــــ 227) وقال: «فأهل الحل والعقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمر من مصالح الأُمة ليس فيه نص عن الشارع، مختارين في ذلك غير مُكْرَهِين عليه بقوة أحد ولا نفوذه، فطاعتهم واجبة». ــــ وتأييداً لما ذكره الأُستاذ الزرقاء عن الاجتهاد المالكي أشير إلى: أ) هيئة الفقهاء المشاورين بالأندلس. وكان من بينهم أحياناً من ليسوا بملتزمين مذهب مالك. ب) أن ملوك المغرب لم يكونوا يتصرفون إلا استناداً إلى فتاوي كبار الفقهاء من علماء القرويين. ــــ ولعل ذلك لم يتخلف إلا في بعض ظروف استثنائية. ــــ ولعل آخر استفتاء صدر عن القصر الملكي هو ما وجهه وزير العدل شيخنا سيدي عبد الرحمن ابن القرشي رحمه الله ــــ عن أمر المولى يوسف رحمه الله إلى علماء القرويين يستفتيهم عما ورد في كتاب طبع في مصر منسوب لأحد المغاربة، وفيه عن إحدى صيغ الصلاة على النبي ((ص))، أنها من كلام الله القديم! وكنا إذ ذاك طلبة صغاراً بالقرويين فجلسنا بباب مقصورة القرويين ننتظر ما يجيب به العلماء، وعندي صورة شمسية للجواب وبأسفله تواقيع العلماء رحمهم الله. ــــ أمة واحدة ورد في كلام المرحوم الطاهر ابن عاشور السابق، عن المجتمع العلمي ــــ ولعل الأولى تسميته بالمجمع الفقهي الذي اقترحه، أنه يحضره أكبر العلماء بالعلوم الشرعية في كل قطر إسلامي على اختلاف مذاهب المسلمين، وكذلك قال الشيخ الزرقاء. ــــ وهو كلام وجيه جداً، لأسباب عديدة منها: أ) أن شريعة الله واحدة، وما أوجب الله مشاورة أولي الأمر ــــ حسبما قدمناه ــــ إلا لتوحيد الرأي. ــــ ب) إن الثقافة الإسلامية كانت طوال التاريخ الإسلامي ثقافة متكاملة بين مختلف أنحاء العالم الإسلامي مشرقه ومغربه، كما هو معروف، ولم تكن بأي حال من الأحوال ثقافة إقليمية أو محلية. ويكفي استعراض مصادر ومراجع الفقه المالكي الأساسية في المغرب، حيث ترجع إلى المدينة ومصر وبغداد والقيروان وتونس وصقلية وبجاية وتلمسان وقرطبة وغرناطة وفاس وغيرها، إلى جانب كتب التفسير والحديث والنحو واللغة والأدب وغيرها. ــــ ج) إن تثبيت الاختلاف المذهبي كان من بين أسبابه ظروف محلية ووقتية خاصة. ومن بينها قلة وجود مراجع بعض المذاهب في بعض المراكز العلمية. ــــ د) إن مراعاة الخلاف من بين أصول مذهب مالك ــــ كما تقدمت الإشارة إليه. وما زال كبار الفقهاء يشيرون في كتبهم إلى آراء أصحاب المذاهب الأُخرى بمنتهى الاحترام والتقدير. ــــ ومن أمثلة ذلك أن الإمام شهاب الدين القرافي المالكي، صدر كتابه «الذخيرة» ــــ وهو من أمهات كتب الفقه المالكي المعتمدة ــــ بمقدمة طويلة في بيان مزايا المذهب المالكي، وعند ذكر منهجه في كتابه قال: «وقد آثرت التنبيه على مذاهب المخالفين لنا من الأئمة الثلاثة ومآخذهم في كثير من المسائل، تكميلاً للفائدة، ومزيداً في الاطلاع. فإن الحق ليس محصوراً في جهة. فيعلم الفقيه أي المذهبين أقرب للتقوى، وأعلق بالسير الأقوى (مخطوط خ، ع، ج، 852 ص 5). ومع أن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، فإن الضرورة دعت للتذكير به. ــــ هـ) وقال الدكتور محمد سلام مذكور في «مناهج الاجتهاد في الإسلام»: «وليس هناك ما يدعو إلى القول بأن معنى الاجتهاد المذهبي يتحقق الآن، مع أنه ليس هناك ما يوجبه ولا يقتضيه. فإن الدراسات الفقهية في هذا العصر دراسات تقارنية، ولا تقتصر على مذهب معين، مهما كان الدارس في أصل دراسته متخصصاً في مذهب واحد، إذ مجال المقارنة الآن فسيح ميسور، وفي كل هذه الفسحة وذلك اليسر تخصب الملَكَات، وتتحدد النظريات، ويمكن استخراج الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية أو الفرعية» (ص 422). ــــ و) وأن الوزن الثقيل جداً للمملكة المغربية في العالم الإسلامي نتيجة تاريخها الطويل والحفيل، إسلاماً وثقافياً وفكرياً وفقهياً وحضارياً، ونتيجة تاريخها المعاصر المليء بالأمجاد، يجعلها ملزمة إلزاماً أكيداً جداً بأن تتحمل مسؤوليتها الكاملة في المساهمة ــــ بجانب فقهاء العالم الإسلامي ــــ بدورها في واجب إحياء الاجتهاد، لمواجهة المشاكل والتحديات المعاصرة، التي تعترض المسلمين في كل مكان، بما في ذلك المغرب، وتتلافى ما فاتها من ذلك وقتاً طويلاً. وليس بمعقول بأية حال من الأحوال أن يستمر المغرب في التغيب عن المساهمة في هذا الواجب المصيري للأُمة الإسلامية، أو أن يحاول مواجهة نفس المشاكل التي يواجهها بقية العالم الإسلامي مواجهة محلية أو إقليمية، كأنه ليس عضواً رئيسياً في الجماعة الإسلامية، له وزنه الثقيل ودوره الفعال الذي ينتظره بصفته عضواً في جسم حي يتفاعل مع بقية الأعضاء.
ارجع إلى القائمة...

ــــ مشاكل تنتظر الاجتهاد


لقد كان من الآثار السلبية لعدم وجود جماعة من الفقهاء الذين تتوفر في كل واحد منهم شروط الاجتهاد معترف بها من جماعة المسلمين، تتولى إصدار الحكم فيها إن تعذر إصدار الحكم الشرعي في كثير من الأُمور. ــــ ويستعرض الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله بعض المشاكل فيقول: أ) «لم يبق للشك مجال يخالج به نفس الناظر في أن أهم مقصد للشريعة من التشريع انتظام أمر الأُمة وجلب الصالح لها ودفع الضرر والفساد عنها. ــــ ب) وقد استشعر الفقهاء في الدين كلهم هذا المعنى في خصوص صلاح الأفراد ولم يتطرقوا إلى بيانه وإثباته في صلاح المجموع العام، ولكنهم لا ينكر أحد منهم أنه إذا كان صلاح الأفراد وانتظام أمورهم مقصد الشريعة فإن صلاح أحوال المجموع وانتظام أمر الجماعة أسمى وأعظم، وهل يقصد إصلاح البعض إلا لأجل إصلاح الكل؟ بل وهل يتركب من الأجزاء الصالحة إلا مركب صالح... فعلينا أن نتخيل الأُمة الإسلامية في صورة الفرد الواحد من المسلمين، فنعرض أحوالها على الأحكام التشريعية كما تعرض أحكام الفرد، فهناك يتضح لنا سبيل واضحة من الإجراء التشريعي في أحوال الأُمة. ــــ ج) وأن مما لا ينبغي أن ينسى عند النظر في الأحوال العامة الإسلامية نحو التشريع هو باب الرخصة. فإن الفقهاء فرضوا الرخص ومثلوا لها في خصوص أحوال الأفراد، ولم يعرجوا على أن مجموع الأُمة قد تعتريه مشاق اجتماعية تجعله بحاجة إلى الرخصة، وليس القول في سد الذرائع ورعي المصالح المرسلة بأقل أهمية من القول في الرخصة بحيث لا يفرضان في أحوال الأفراد، بخلاف الرخصة». وبعد كلام طويل عن «واجب الاجتهاد» ومسؤولية المقصرين في القيام به قال: ــــ د) «والتقصير في الاجتهاد يظهر أثره في: ــــ الأحوال التي ظهرت متغيرة عن الأحوال التي طرأت، ولم يكن نظيرها معروفاً في تلك العصور. فهم بحاجة ــــ في الأقل ــــ إلى علماء يرجحون لهم العمل بقول بعض المذاهب المقتدى بها الآن بين المسلمين ليصدروا عن عمل واحد. ــــ هـ) وفي كل الأحوال، قد اشتدت الحاجة إلى إعمال النظر الشرعي، والاستنباط والبحث عما هو مقصد أصلي للشارع، وما هو تبع، وما يقبل التغير من أقوال المجتهدين وما لا يقبله». ــــ و) نستعرض هنا أمثلة إجمالية، منها: أ) مسائل بيع الطعام. ب) ومسائل المقاصة. ج) ومسائل بيع الآجال. د) ومسائل كراء الأرض بما يخرج منها. هـ) ومسألة الشفعة في خصوص ما يقبل القسمة، ففي كثير منها تضييق مقاصد الشريعة الإسلامية. ــــ ويستعرض الدكتور محمد سلام مذكور في «مناهج الاجتهاد في الإسلام» أمثلة أُخرى فيقول: «فهذه العقود المتنوعة التي جدت: أ) كعقود التأمين بأنواعها. ب) وعقود البورصة. ج) واليانصيب. د) وعقود المضاربات. هـ) وأعمال الكمبيالات. و) وهذه الشركات المساهمة، وما تطرحه من سندات. ز) وصناديق التوفير. ح) والعقود الحكومية، وشبه الحكومية. ط) ونقل قطعة من جسم إنسان إلى آخر. ي) والاستفادة بأجزاء من جسم الميت لمعالجة الحي وإصلاح شأنه، وغير ذلك. ك) مما يتعلق بغزو الفضاء. ل) والوصول إلى القمر، وكل ما يصل إليه العلم الحديث. والواقع أن كل هذا يحتاج إلى بحث بما يتلاءم مع الشرع ومبادئه التي تساير مصالح الناس ولا تجعل الأُمة الإسلامية متخلفة علمياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً». («ص 52 ــــ 53»).
ارجع إلى القائمة...

الاقتصاد الإسلامي


ــــ والواقع أن المشكلة أعمق وأوسع من ذلك بكثير، إنها مشكلة «الاقتصاد الإسلامي» نفسه. لقد سبق أن ذكرنا أن من أهداف الإسلام إقامة حضارة متميزة، لها مقوماتها الخاصة ومنها «الاقتصاد الإسلامي» الذي وضع أسسه القرآن والسنة بما تضمناه من تشريعات جيدة وتوجيهات سامية تضمن من العدالة ما لم تعرفه لا الشريعة اليهودية ولا القانون الروماني. ووسع الاجتهاد والممارسة آفاقه لدرجة حققت مصالح أقاليم العالم الإسلامي الشاسع الأطراف، ومكّن أُمَماً أُخرى غير إسلامية من اقتباس كثير من النظم الاقتصادية الإسلامية. ــــ وفي نطاق مداولة الأيام بين الناس، تقدمت أُمم وشعوب أُخرى وتولت القيادة بدلاً من المسلمين الذين تخلفوا وأصبحوا كغثاء السيْل، كما أخبرهم النبي ((ص)). ــــ وأصبحت اليوم تتنازع السيطرة على العالم قوتان جاهليتان طاغيتان، تتسابقان في جنون نحو القضاء على الحياة البشرية على الأرض، ولكل واحدة منهما نظامها الاقتصادي الذي لا صلة له بالله. وهما الاشتراكية والرأسمالية، موهمان الأُمم والشعوب أنه لا مناص لها من اختيار واحد من النظامين اللذين لا بديل لهما. وحَسْبُكَ مِن شَرَّيْن أَحْلاَهُمَا مُرّ. ــــ وتقدم الإسلام بنظامه الاقتصادي المتكامل الذي يستطيع البشر به عن طريق الاجتهاد في نطاق النصوص المقدسة، أن ينقذوا البشرية من الإبادة الحتمية التي تهوي نحوها. ــــ في سنة 1960م أصدر كاتب فرنسي اسمه جاك أوستروي كتاب «الإسلام في مواجهة النمو الاقتصادي» بتقديم أندره بياتر أستاذ الحقوق والعلوم الاقتصادية بجامعة باريس، وصدر في دمشق بتعريب الدكتور نبيل صخر الطويل باسم «الإسلام والتنمية الاقتصادية» بتقديم صديقنا العلامة الكبير المرحوم محمد المبارك عميد كلية الشريعة بجامعة دمشق حينذاك، في صفحات 118، ويقول المؤلف في مقدمة كتابه: «وفيما يخص الإسلام، يظهر أن المشكلة الحاسمة للتنمية تواجه بأسلوبين ــــ طبعاً بعد استبعاد النظرية المستحيلة في زوال الإسلام كنظام اجتماعي متميز، وَذَوَبَانِه في مجتمع أكثر ديناميكية. ــــ ومستقبل الإسلام الاقتصادي ينفتح على نقطة فاصلة. هل يساير العالم الإسلامي العصر الحاضر بمجافاة القرآن، أم بالسير تحت لوائه؟». ــــ ويقول أندره بياتر في تقديمه: «كل اقتصادي مهتم بالمسائل التي يتعلق بها قدرنا وسلوكنا، سيكون شاكراً المؤلف على دراسته، وسيحمده بصورة خاصة لتأكيده وتركيزه على النقطتين التاليتين: أ) كردّ فعل للتخطيط المبسط «كما يراه مردال»، يظهر السيد أُوستروي باقتناع أن هناك أكثر من مخططين إجباريين للنمو الاقتصادي في البلاد التي هي في طريقها لذلك: الرأسمالية والماركسية، فالإسلام لا يتوافق مع كليهما». ب) والقسم الثاني ــــ بالنسبة لنا ــــ هو أكثر تأثيراً وهو الموضوع الذي يثبت فيه أن النمو الاقتصادي في الإسلام لن يتحقق إلا إذا صبت في الإطار التقدمي المتطور القوى الحية الهائلة التي يمده بها القرآن، ونقصد الروح القرآنية الحقة، بعد إزالة الأغلفة اللاّهوتية الزائلة التي علقت بها وغطت جوهرها، وخَنَقَت لأَجيالٍ طويلة رسالة القرآن الأَصيلة. ــــ ويقول الشيخ محمد المبارك، رحمه الله: «وينتهي المؤلف إلى الفكرة الثالثة وهي التنبؤ باحتمال قيام نظام اقتصادي إسلامي في العالم، يقوم على أُسس مستمدة من الإسلام، وتتلخص بتنمية الحياة الاقتصادية وبالإبقاء على المِلْكِية الفَردِية ضِمْن وظيفتها الاجتماعية التي قررها الإسلام، أي محدودةٍ بحدود مصلحة الجماعة، وبإيجاد نظام يحل محلّ الرّبا في النظام الرأسمالي، وفتح باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي، ورعاية الأهداف الأخلاقية في النظام الاقتصادي، للحد من المآسي التي أوجدتها حضارة الآلة وماديتها الطاغية». ــــ والواقع أنه منذ بداية الغزو الأُوروبي ــــ شرقيه وغربيه ــــ للعالم الإسلامي، والمؤمنون الصادقون يتناولُون بالدّرس والبحث، مختلف جوانب الاقتصاد الإسلامي، ومحاولة بعثه من جديد وهم الذين سماهم علال الفاسي رحمه الله، رواد الاقتصاد الإسلامي. وقد ملؤوا المكتبة الإسلامية الحديثة بعشرات المؤلفات القيمة التي لا يخلو بعضها من ابتكار، أي اجتهاد، كما أن كثيراً من الجامعات والمؤسسات العلمية ساهمت بدورها في هذا الموضوع. ــــ وكان المرحوم علال الفاسي الرائد المغربي الأول في هذا الميدان، بكتابه الخالد: «النقد الذاتي»، أولاً، وبكثير مما كتبه بعد ذلك. ــــ وكان المنظر الماركسي روجي چارودي عضواً في اللجنة العليا للحزب الشيوعي الفرنسي، ثم خرج منها، وكتب «البديل» يبحث عن «بديل» للماركسية، فكتب له علال الفاسي رحمه الله «بديل البديل» يلفت فيه نظره إلى الإسلام كبديل للماركسية، ولم يلبث أن كتب چارودي كتابه «بشائر الإسلام»، ثم أعلن إسلامه في المدة الأخيرة. ــــ وقد كان ضيف ندوة أكاديميتنا التي تقرر فيها موضوع إحياء الاجتهاد ثم أصبح عضواً في الأكاديمية. ــــ كما أعلن ضيف الندوة الأُستاذ إسماعيلوفك، من يوغوسلا؟يا، أثناء تدخله أن الماركسية قد أفلست على نطاق عالمي، ولم يبق شيء منها منفذاً في أي بقعة من البقاع، ولام الدول الإسلامية على عدم تطبيقها للشريعة الإسلامية لتقدم المثل الواقعي للباحثين عن الحقيقة. وكنا نحن قد طالبنا بالعودة لتطبيق الشريعة في بلادنا، كما كنا عليه قبل الحماية. ــــ وفي سنة 1396هـ = 1976م، عقد المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز التي يديرها زميلنا في أكاديمية المملكة المغربية الدكتور عبد الله عمر نصيف، وقد درس المؤتمر الموضوعات التالية: ــــ مفهوم ومنهج الاقتصاد الإسلامي. ــــ حصر المراجع المعاصرة في الاقتصاد الإسلامي. ــــ الزكاة والسياسة المالية. ــــ بنوك بلا فوائد. ــــ التأمين في إطار الشريعة الإسلامية. ــــ وفي الملحقين 2، 3 ملخص لبحثين للمؤتمر. ــــ وتنفيذاً لقرار من المؤتمر تأسس «المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي» ومن بين نشاطاته طبع ونشر أبحاث المؤتمر العالمي الأول في مجلدين أحدهما بالعربية 606 ص. والآخر بالإنچليزية. ــــ وكانت مجلة «المسلمون» اللندنية المرحومة قد نشرت أن إحدى الجامعات الأمريكية، لعلها هار؟ارد ــــ قد عقدت هي أيضاً مؤتمراً عن الاقتصاد الإسلامي ونشرت أبحاثه في مجلد. ــــ والحمد لله رب العالمين. ولعل في هذا العرض الطويل كفاية للذين لم تتح لهم ظروفهم من قبل التعرف على موضوع له هذه القيمة العظمى في حياة النظام الإسلامي واستمراره، حتى يتمكنوا من التعرف على كثير من جوانبه المختلفة، قديماً وحديثاً. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ارجع إلى القائمة...


الملحق


من لهم الاجتهاد بالرأي، لعبد الوهاب خلاف.
حول وجوب الزكاة في رواتب الموظفين، وأُجور العمال وصافي إيرادات المباني، وصافي إيرادات المِلْكِية الزراعية، للدكتور محمد سعيد عبد السلام.
النتائج التي ختمت بها دراسة حكم شريعة الإسلام في عقود التأمين، للدكتور حسين حامد حسان.
ارجع إلى القائمة...

الملحق 1 من لهم حق الاجتهاد بالرأي؟

لخص المرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف في «مصادر الشريعة فيما لا نص فيه» ما سبق له أن ذكره في كتابه «الاجتهاد والتقليد، والتعارض والترجيح» في بيان من هم الذين يجوز لهم شرعاً الاجتهاد بالرأي. وهو في نفس الوقت منهج مدرسي لمن يريد أن يحقق لنفسه القدرة على الاجتهاد. قال الشيخ خلاف: 1) ــــ بما أن أول مصدر يرجع إليه في الاجتهاد هو القرآن، فيجب على من يتأهل للاجتهاد أن يكون على علم تام بأحكام القرآن. والمراد بهذا أن يكون على علم تام بأحكام القرآن والأُصول التشريعية العامة التي قررها. فالعلم التام بتشريع القرآن الجزئي والكلي هو أول المؤهلات للاجتهاد. ولا يلزم للمستأهل للاجتهاد في الأحكام العملية أن يكون على علم تام بجميع بما في القرآن من قصص وأخلاق وغيرهما، بل الواجب أن يكون على علم تام بالتشريع العملي في القرآن كلياته وجزئياته، أي أنه يكون على علم تام بآيات الأحكام في القرآن. وآياتُ الأحكام في القرآن نحو خمسمائة آية، على ما ذكره الغزالي وأكثرها في العبادات وما يلحق بها من الأحوال الشخصية والنذور والأيمان. وليست آيات كل نوع متصلاً بعضها ببعض، ولا مجموعة في سورة واحدة، بل الآيات الخاصة بالفرع القانوني الواحد مفرقة في عدة سور لأنها ما أُوحي بها إلى الرسول جملة واحدة ــــ وإنما أُوحي بها إليه مفرقة حسب الوقائع. ودونت كل آية حسب مناسبتها. فليست آيات المجموعة المدنية في سورة واحدة، وليست آيات العقوبات في موضع واحد. وقد عني بعض المفسرين بآيات الأحكام، فمنهم من أفردها بتفسير خاص، ومنهم من جمع آيات كل نوع وضم بعضها إلى بعض. وآيات الأحكام في القرآن هي التي تكون «فقه القرآن» وأول واجب على من يستأهل للاجتهاد أن يحصي آيات الأحكام في القرآن، ويجمع آيات كل نوع منها، بحيث يكون بين يديه كل آيات القرآن في الطلاق، وكل آياته في الإرث، وكل آياته في البيع، وكل آياته في العقوبات وهكذا، ثم يدرس هذه الآيات دراسة عميقة، ويقف على أسباب نزولها، وعلى ما ورد في تفسيرها من السنة ومن آثار الصحابة والتابعين، وعلى ما فسرها به المفسرون. ويقف على ما تدل عليه نصوصها وما تدل عليه ظواهرها. وعلى المحكم منها والمنسوخ وما نسخه. فإذا درس هذه الآيات التشريعية حق درسها، استطاع إذا عرضت له واقعة أن يبين عن علم ما حكم القرآن في الواقعة بنص من نصوصه، أو بظاهر من ظواهره، واستطاع أن يحكم عن علم بأن القرآن لم يدل على حكم هذه الواقعة لا بنص من نصوصه، ولا بظاهر من ظواهره. 2) ــــ وبما أن ثاني مصدر يرجع إليه في الاجتهاد هو السنة، فيجب على من يستأهل للاجتهاد أن يكون على علم تام بالسنة، والمراد بهذا أن يكون على علم تام بالسنن التشريعية العملية القولية والفعلية والتقريرية. أي بما صدر عن الرسول من التشريع جزئياته وكلياته. وقد عني علماء الحديث بالسنة عناية تامة يسرت السبل لمن يريد العلم بها. فأولاً ميزوا بين المتواتر منها وبين الآحاد. وميزوا بين الصحيح والضعيف. وصار العالم غير محتاج إلى بذل جهد في سند الحديث للوقوف على مرتبته، فكل حديث من الميسور معرفة أنه متواتر أو غير متواتر، وصحيح أو حسن أو ضعيف. وثانياً رتبوا الأحاديث على أبواب الفقه، وجمعوا أحاديث كل نوع في باب على حدة، فأحاديث البيع في باب البيع ــــ وكذا أحاديث الرهن والربا والسرقة والزنى، والقذف، وكل فرع من فروع العبادات والمعاملات والعقوبات أو غيرها وثالثاً، عمد العلماء إلى كتب السنن الصحاح الستة، وهي صحاح: البخاري ومسلم، وأبي داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وجمعوا ما فيها بحيث يستطيع الباحث أن يقف على ما في هذه الصحاح كلها في البيع وما فيها كلها في الإجارة. وهكذا فمن رجع إلى كتاب جامع لهذه الكتب الستة مثل كتاب «التاج الجامع للأُصول الستة» ورجع معها إلى كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس وكتاب «منتقى الأخبار» لابن تيمية ــــ يعني جد شيخ الإسلام ــــ وشرحه «نيل الأوطار» للشوكاني ترجح عنده أنه لم تغب عنه سنة تشريعية في الواقعة التي يبحث فيها. وأمكنه أن يحكم على علم بأن الواقعة التي عرضت، دلّ على حكمها نص في السنة أو ظاهر من ظواهرها، أو لم يدل على حكمها من السنة نص ولا ظاهر. وإذا وقف على نص في السنة، بحث عن سبب ورود هذا النص، وهل هو محكم أو منسوخ وما ناسخه. وهل يعارض نص آخر أو لا يعارضه نص. وإذا وقف على ظاهر فيها بحث أيضاً عن سبب وروده وهل هو محكم أو منسوخ، وهل هو معارض أو غير معارض، وهل هو على ظاهره أو مؤول، وما دليل تأويله، وعلى ضوء هذه البحوث يستدل على حكم الواقعة من السنة إذا وجد. 3) ــــ وبما أن ثالث مصدر يرجع إليه في الاجتهاد هو ما أجمع عليه مجتهدو المسلمين في عصر من العصور، فيجب على من يستأهل للاجتهاد أن يكون على علم بمذاهب المجتهدين السابقين، حتى يعرف ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، ووجهات نظرهم فيما اختلفوا فيه، فإن وجد في الواقعة حكماً أجمع عليه المجتهدون في عصر من العصور التي سبقته أمضاه، فكما أنه لا مساغ للاجتهاد فيما فيه نص صريح، لا مساغ للاجتهاد فيما انعقد عليه إجماع المجتهدين. والظاهر أنه يكفي أن ينتج البحث الدقيق الذي بذل فيه أقصى الجهد أن هذا الحكم في الواقعة لا يعرف فيه خلاف بين المجتهدين السابقين فيحكم به ولا يفتي بخلافه». ولم يذكر الشيخ خلاف مرجعاً في «مسائل الإجماع». وللحافظ ابن حزم «مراتب الإجماع». ولشيخ الإسلام ابن تيمية تعقيبات عليها وهما مطبوعان معاً. وفي فتاوى علّيش أن الأَشياخ يقولون: «أصح الإجماعات إجماعات ابن حزم». 4) ــــ وبما أن رابع مصدر يرجع إليه في الاجتهاد هو القياس فيجب على من يستأهل للاجتهاد أن يعرف حقيقة القياس، وأركانه، والشروط الواجب توافرها في كل ركن وخاصة شروط العلة ومسالكها وقوادحها، وهذا يوجب عليه أن يدرس علم أُصول الفقه دراسة دقيقة شاملة. وأن يعرف المبادىء التشريعية العامة التي بنيت عليها الأحكام، والمقاصد العامة التي قصدت بها، وأن يعرف علل الأحكام التي دلت عليها النصوص، وعلل الأحكام التي تؤخذ من القواعد الكلية. وبهذا تتكون عنده مَلَكَة تشريعية يقدر بها على استنباط الأحكام وفهم روح التشريع الإسلامي، وقياس ما لا نص فيه على ما فيه نص أو الاستدلال على حكمه بأية إمارة من الأمارات التي اعتبرها الشارع للدلالة على أحكامه. والوسيلة لفهم ما تدل عليه النصوص التشريعية في القرآن والسنة فهماً صحيحاً هي العلم باللسان العربي، فعلى من يستأهل للاجتهاد أن يكثر قراءة آداب العرب من منثور ومنظوم، وأن يدرس المبادىء اللغوية العربية التي توصل إليها العلماء من استقراء أساليب العرب، وطرق دلالة ألفاظهم وعباراتهم على المعاني، وأن يكون له من هذا مَلَكَة عربية سليمة يقتدر بها على فهم النصوص العربية وإزالة غموض ما فيه خفاء. والوسيلة لاستنباط الأحكام فيما لا نص فيه بواسطة القياس أو بواسطة غيره من الأمارات الشرعية، هي العلم بالمصالح العامة التي قصدها الشارع بالتشريع، والعلم بأحوال البيئة وما تقتضيه من مصالح، حتى لا يَنْبو التشريع عن مصالح الناس. 5) ــــ وبما أن سِيَاج هذه المؤهلات هو خلق المجتهد ودينه وضميره، وجب أن يكون عَدْلاً، أي كاملاً في دينه وخلقه، ولا يرتكب كبيرة ولا يصر على صغيرة، ولا يخشى في الحق لومة لائم، ولا بأس ذي سلطان ولا يبغي إلا المصالح الحقيقية العامة. فإذا اختيرت جماعة متوفرة فيهم هذه المؤهلات، وضمت إليهم جماعة من العدول ذوي علم بشؤون الدنيا من قانونية واقتصادية، وتجارية واجتماعية وصحية وغيرها، تكونت من هاتين الجماعتين «جمعية تشريعية» «فيها الأهلية للاجتهاد» (ص 13 ــــ 17).
ارجع إلى القائمة...

الملحق 2 حول وجوب الزكاة في رواتب الموظفين وأُجور العمال وصافي إيرادات المباني وصافي إيرادات المِلْكِية الزراعية

من الدراسات التي قدمت للمؤتمر العالمي للاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز، دراسة للدكتور محمد سعيد عبد السلام، الأُستاذ بكلية الاقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبد العزيز بجدة (ص 327 ــــ 352). دور الفكر المالي والمحاسبي في تطبيق الزكاة ومن جملة الموضوعات التي تناولتها الدراسة: الاجتهاد في استنباط الأحكام بالنسبة للصور المستحدثة في الأموال. فذكر أن من بين القضايا المستحدثة المعروضة ننتقي قضية زكاة كسب العمل، وقضية الزكاة على النماء من العقارات المبنية، ومن ملكية العقارات المزروعة، وذلك باعتبار أن هاتين القضيتين متعلقتان بالزكاة على النماء وحده، دون تخالط الأصل معه، حيث إن زكاة العقار لا تكون إلا على نمائه، كما أن العمل، وهو مصدر كسب ليست له قيمة رأسمالية متصورة أو محدودة، يمكن أن يؤخذ قدرها في الحسبان مع النماء عند الخضوع (كذا!). ولقد يبدو بسبب ذلك مدى التشابه بينهما وبين زكاة الزروع والثمار. أ) ــــ فحين يبحث الفكر المالي في كسب العمل يجده شاملاً لأرباح المهن الحرة، وكذلك المرتبات، وأُجور العاملين، التي تنشأ أساساً كثمرة لعقد العمل بين العامل وصاحب العمل. وبعدما أوضح تغاير هذه الأُجور والمرتبات مع ما كان يتقرر من أعطيات أيام الإسلام الأُولى من حيث طبيعة ومصدر كل منهما، ومن حيث اختلاف الحكمة المتوخاة في تقريرهما، قرر نتيجة لذلك أنه لا محل لإعمال القياس على الأعطيات وبالتالي لم يصح إعفاء الأُجور والمرتبات اليوم من شرف المساهمة في تمويل الصدقات، لأن الأَصل أن كل نماء لا بد له أن يخضع للزكاة تحقيقاً للعمومية في مفهوم العدالة المالية. واقترح قياسها على زكاة الثمار: وهل المرتبات والأُجور إلا ثمار تتكرر داخل الحَوْل، على جهد بشري يعد مصدراً مشروعاً للنماء في ميادين أُخرى خاضعة أوعيتها للزكاة بلا خلاف مما يتطلب الأمر معه إخضاع مرتبات اليوم على أساس صافيها بعد استنزال تكاليف تحقيقها منها، على أن تؤدي زكاتها يوم حصادها. وهو لحظة وضع الأُجور تحت تصرف العامل المستحق لها. ويراعى ــــ بالقياس على زكاة الزروع والثمار ــــ أن يخصم من وعاء زكاة المرتبات قدر حكمي يعادل ما هو مشغول بالحاجة الأصلية يقدرها ولي الأمر، كأن يضع جداول حكمية للتكاليف الأساسية لمعيشة المكلف، ومن يعولهم، ما دام التحديد الفعلي لتلك الحاجات قد يثير مشكلات مستمرة مع الوالي، حتى إذا تبقى بعد ذلك ما يعادل النصاب الشرعي أو يزيد، خضع هذا الباقي للزكاة. أما ما يدخل من تلك الأُجور والمرتبات ليستقبل حَوْلاً جديداً يحسب من يوم وضعها تحت تصرف العامل، فإنه يدخل عنها نهاية الحول في وعاء زكاة النقدين، دون أن يكون في ذلك تثنية مذمومة، لأن الفكر المحاسبي يرى أن الذي خضع أول مرة هو النماء، بينما الذي خضع في المرة الثانية بعد مرور الحول هو رأس المال. فلا تثنية هنا في الزكاة، لاختلاف الأصل عن الناتج، من حيث طبيعة كل منهما ومركزه بين الأموال. وبعدما أفاض في الاحتجاج لرأيه، تعرض لفرض الزكاة على صافي إيرادات المباني، وصافي إيرادات الملكية الزراعية، على أساس قياسها على زكاة الزروع والثمار، ذاكراً أنه كان الشائع فيما مضى ــــ شغل العقارات لا تأجيرها للغير، فلم تخضع للزكاة لعدم توافر العلة وهي النماء، ولا ينبني على ذلك أن تعفى صافي إيرادات التأجير بلا نص أو قياس، بعد أن تحقق النماء بالفعل لدى المالك. وبعدما أفاض القول في ذلك ختم بالإشادة بالأسرار الكامنة في المصادر الشرعية لفقه الزكاة، تلك التي ينعم بتذوقها الفقيه الملهم والعالم التقي، فتنير له طريق الاجتهاد، وهو المصدر المتاح اليوم لاستكمال حقائق الزكاة (ص 347 ــــ 352).
ارجع إلى القائمة...

3الملحق


النتائج التي ختمت بها دراسة (حكم شريعة الإسلام في عقود التأمين) من الدراسات التي قدمت للجنة «التأمين» في المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي دراسة قيمة بعنوان: حكم الشريعة الإسلامية في عقود التأمين (ص 415 ــــ 519) بقلم الدكتور حسين حامد حسّان المشرف على قسم الدراسات العليا الشرعية، بكلية الشريعة بمكة المكرمة، جامعة الملك عبد العزيز. وخلص في بحثه الطويل إلى النتائج التالية: 1) إن التأمين باعتباره نظرية ونظاماً غير منظور فيه إلى الوسائل العلمية لتحقيق النظرية. وتطبيق النظام أمر يتفق مع مقاصد الشريعة العامة، وتدعو إليه أدلتها الجزئية. 2) إن مشروعية الغاية والقصد، لا يلزم منها حتماً جواز كل وسيلة تؤدي إلى هذه الغاية أو تحقق ذلك المقصد. 3) إن الصيغة العملية التي شرعها الإسلام للتعاون والتضامن وبذل التضحية هي عقد التبرع، حيث لا يقصد المتعاون والمضحي فيها ربحاً من تعاونه وتضامنه، ولا يطلب عوضاً مالياً لما بذل، ومن ثَمَّ جازت هذه العقود مع الجهالة والغرر، ولم يدخلها القمار والمراهنة والربا. 4) إن كلاً من التأمين التعاوني، والتأمين الاجتماعي ــــ وهو الذي تقوم به الدولة، أو تعهد بإدارته وتنظيمه لبعض هيآتها العامة ــــ يحقق الصيغة العملية التي شرعها الإسلام للتعاون والتضامن وبذل التضحيات، فهذان النوعان من التأمين يقومان على قصد التعاون والتضامن والتبرع، دون الرغبة في استثمار الأموال وطلب الربح، فَيُعَدان تطبيقاً لنظرية التأمين ــــ في رأي الباحث ــــ لأنهما ليسا إلا تعاوناً منظماً تنظيماً دقيقاً بين عدد كبير من الناس معرضين جميعاً لخطر واحد، متى تحقق الخطر، بالنسبة إلى بعضهم تعاون الجميع على مواجهته، بتضحية قليلة يبذلها كل منهم، يتلافون بها أضراراً جسيمة تحيق بمن نزل به الخطر منهم لولا هذا التعاون. 5) إن التأمين بقسط ثابت، وهو الذي تقوم به شركات التأمين، لا يحقق الصيغة العملية التي شرعها الإسلام للتعاون والتضامن وبذل التضحيات، لأن العقود التي تبرمها هذه الشركات معاوضات مالية، دخلها الغرر والقمار والربا، وعقود المعاوضات إذا دخلتها هذه الأُمور بطلت. 6) إن التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية يحقق التعاون والتضامن والتكافل على أساس محكم لم يسبق له نظير. وإن توسع الدولة الإسلامية في التأمينات الاجتماعية حتى تشمل جميع طبقات الشعب التي تعجز مواردها عن مواجهة الأخطار أمر لازم، فإن الدولة الإسلامية في نظر الإسلام، تلتزم بتأمين فرصة عمل لكل قادر على العمل، وبتأمين العاجز بإعطائه ما يكفيه مأْكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً ــــ كما يقول بعض الفقهاء ــــ ولها في موارد الزكاة ما يقوم بذلك. وإلا كان لها أن تفرض من الضرائب على الأغنياء ما يسد حاجة الفقراء. 7) إن الصيغة المشروعة المتاحة للأفراد حتى الآن، لتحقيق أهداف التأمين ومقاصده من التعاون والتضامن على توفير آثار المخاطر هي التأمين التبادلي الذي تقوم به الجمعيات التعاونية، إذا قامت دراسات جادة للتوسع في هذا النوع من التأمين، واستخدام الوسائل العلمية التنظيمية على الوجه الذي يحقق به هذه الغايات والمقاصد. وهناك تجارب مفيدة في هذا الباب قامت بها بعض الدول الإسلامية يمكن الاستفادة منها (ص 517 ــــ 519). ارجع إلى القائمة...

حمد ابراهيم بن أحمد الكتاني مع رفيقيه علال الفاسي وعبد العزيز بن ادريس

الطابع الجماعي في الفقه الإسلامي
من آثار محمد إبراهيم الكتاني


مع أن التشريع الاسلامي يهدف الى صلاح الفرد والمجتمع، فإن النزعة السائدة فيه هي النزعة الجماعية، التي نجدها واضحة فيما جاء به الاسلام من عبادات ومعاملات، تهدف كلها الى تهذيب الفرد وصالحه، والصالح العام للمجتمع بأسره، حسبما هو واضح في حكمة مشروعية الصلاة، والصوم والزكاة والحج، وحل البيع وتحريم الربا، والأمر برعاية الجار والوفاء بالعقود، والترغيب في الزواج لإنشاء الأسرة، وتحريم الزنا، وإقامة الحدود صيانة للمجتمع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى ذلك من سائر الأحكام الشرعية. وفيما يلي بعض الامثلة على الطابع الجماعي للفقه الإسلامي:

1- من حق الزوج ان تكون زوجته في طاعته لتكون سكنا له، وليثمر الزواج ثمراته المنشودة منه، ولكن هذا الحق مقيد بألا يكون في استعماله ضرر للزوجة، وإلا منع منه، او حد القاضي من استعماله، حتى يكون للزوجة في بعض حالات الضرر، طلب التطليق منه، وقد جاء في الآية ٣٣١ من سورة البقرة: (فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا).

2- ومن حق الحكام ان تسمع لهم الرعية ويطيعهم الشعب، ولكن ذلك مشروط بان يصدروا في حكمهم وسياستهم للأمة ما فيه المصلحة العامة، وفى هذا بقول الرسول - فيما رواه الامام احمد في مسنده: ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أوكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)). وهذا أصل من اصول الحكم في الاسلام له خطره الكبير: إذ انه يحدد في دقة تامة سلطان الحاكم وحقوق المحكوم، واتباعه مصلحة الامة جميعا.

3- وروى ابو يوسف في كتاب الخراج، انه لما فتح الله العراق والشام على المسلمين ايام عمر بن الخطاب، طالبه الجند بقسمة الارض وما عليها بينهم، لكن الفاروق رأى ان يترك الأرض بيد ملاكها على ان يدفعوا الخراج والجزية للمصلحة العامة للمسلمين جميعا، ووافقه على ذلك جمهور الصحابة، وكان هذا الراي توفيقا من الله لعمر بن الخطاب كما عوذه في كثير من الحالات.

4- ومن المعروف ان للمالك الحق في ان يتصرف في ملكه كما يشاء ومن ذلك حق البيع لمن يريد، كما أن للمشتري الحق في شراء ما شاء إذا رضي مالكه بيعه له، ومع ذلك فان الفقه الاسلامي اوجب حق الشفعة للشريك او الجار – عند من يرى الشفعة للجار -، فيكون للشفيع تملك ما اشتراه الأجنبي جبرا عن المشتري والبائع، وذلك لأن الحقوق لم يشرعها الله لضرر الغير بلا ضرورة أو سبب. إن الفقه الإسلامي يحفظ الحق لصاحبه بلا ريب، ويبيح له استعماله كما يريد، ويحميه له من اعتداء الغير، ولكن بجانب ذلك كله، يعمل التشريع الاسلامي من ناحية أخرى، على أن لا يضار الغير - باستعمال صاحب الحق حقه - ضررا يكون اكبر من ضرر الحد من حرية صاحب الحق، وذلك تطبيقا لقاعدة: لا ضرر ولا ضرار، ودفعا لأكبر الضررين بالأخف منهما، فهذه القاعدة تحكم استعمال الحقوق، وفي تطبيقها تحقيق صالح صاحب الحق، وصالح الغير معا.

وفي هذه الامثلة التي أوردناها كفاية لإثبات الطابع الجماعي للفقه الإسلامي، هذا الطابع الذي نجد في القران، وسنة الرسول، واحكام واراء الجلة من الصحابة، المصدر الاصيل له في امثلة عديدة لا يكاد يأتي عليها العد او يحدها الإحصاء. يقول الاستاذان الدكتور العلامة عبد الرزاق السنهوري واحمد حشمت ابو ستيت في المقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني الذي يعتبر الأصل للقوانين الغربية الحديثة: لم تسلك الشريعة الاسلامية في نموها الطريق الذي سلكه الفقه الروماني، فان هذا القانون نما بعادات، وازدهر عن طريق الدعوى والإجرامات الشكلية. اما الشريعة الاسلامية فقد بدأت كتابا مُنَزلا، ووحيا من عند الله ونمت وازدهرت عن طريق القياس المنطقي والأحكام الموضوعية، وإن الفقهاء المسلمين امتازوا على فقهاء الرومان بل امتازوا على فقهاء العالم باستخلاصهم اصول ومبادئ عامة من نوع آخر، هي اصول الاحكام من مصادرها، وهذا ما سمَّوه بعلم أصول الفقه.

وكل ما أوردناه يثبت بما لا مجال للشك فيه ان الشريعة الاسلامية لم تأت لصالح الفرد وحده، بل لصالح المجتمع كله في أكبر حدوده. أما القوانين التي هي من صنع البشر، فلم تلاحظ في اول امرها هذه النظرة الجماعية او الاجتماعية السامية، بل كانت تسودها الروح الفردية. لقد كان الهدف الأول للثورة الفرنسية عام 1789 ميلاديه تحرير الفرد مما كان ينوء به من قيود وأثقال، في السياسة والقانون والاقتصاد وغير ذلك من نواحي الحياة العامة، فجاءت هذه الثورة لتقرر أن الإنسان باعتباره فردا ذو حقوق طبيعية بلغت من القداسة أنه لا يجوز العبث أو المساس بها ولو لصالح الغير. ومن ثم، ساد هذا القانون روح فردي قوي يلتئم مع الروح الذي أملى إعلان حقوق الانسان، وهو تدعيم حقوق الأفراد وحمايتها والنظر الى الفرد باعتباره العنصر الأهم في الحياة، لا باعتباره جزءا من كل، هو الجماعة. وكان من نتائج ذلك أن أتى وقت اعتبرت فيه الحقوق مطلقة المدى، وأن صاحب الحق سيد في استعمال حقه، لا يسأل عما يترتب على هذا الاستعمال من الاضرار التي تحيق بغيره
. على ان ما حدث بعد عصور الثورة من تطورات اجتماعية واسعة المدى والأهمية، قد أدى الى تطور مماثل في القوانين جعلها تنظر إلى الفرد وحقوفه باعتباره عضوا في الجماعة، ومن ثم أخذت في الحد من حريته في استعمال حقوقه،

فنشأت نظرية سوء استعمال الحقوق « La théorie de l’abus des droits »

إلا انه مع ذلك بقي من الثابت الذي لا ريب فيه ان نظرة الشريعة الاسلامية لحقوق الافراد وتقييدها بما يحقق مصلحة الجماعة ولا يضر مصلحة الفرد نفسه صاحب الحق، أوسع مدى وابعد اثرا من نظرة القوانين الحديثة في هذه الناحية، ولهذا نراها جميعا تبيح التعامل بالربا مع فيه من الضرر بالمحتاج للقرض، رعاية لما فيه من صالح رأس المال

وترجع هذه التفرقة الواضحة بين طابع الشريعة الإلهية وطابع القانون البشري الى تفرقة اساسية في اصل حقوق الفرد في الشريعة والقانون. إن القانون -في اول امره على الأقل- يعتبر حقوق الفرد حقوقا طبيعية له، فهو يملكها ويتصرف فيها حسب ما يرى، ومن ثم لا حرج عليه ولا تثريب إن اساء استعمالها، اما الشريعة الالهية فترى ان الفرد نفسه، وكل ما يعتبر له عادة من حقوق، ملك لله تعالى وحده، ومنحة منه لعبيده، ولا يمنح ما يمنح من حقوق الافراد إلا لغرض حكيم هو تحقيق الخير للفرد وللمجتمع معا، ولذلك نجد تقييد استعمال الحقوق من نواح عديدة مختلفة. ذلك بان من المسلَّم الذي لا جدال فيه، أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا، وأن هذا ثابت في جميع الاحكام بالاستقراء، ويترتب منطقيا على هذا الأساس وجوب ان يكون الانسان في عمله واستعماله لحقوقه متفقا مع قصد الله من التشريع، وإلا كان عمله باطلا لمناقضته للشريعة ومقاصدها. ارجع إلى القائمة...


اتصلوا بنا

تفضل قدم رسالة عبر الإيميل
kettani.y@gmail.com


أو عبر الواتساب على الرقم


(212) 661 198 993