الأستاذ محمد ابراهيم الكتاني
ومزاياه في التعريف بالمخطوطات المغربية
بقلم الأستاذ محمد حجي رحمه الله
قصدت إلى كلمة مزايا في عنوان العرض قصدا، واستبدلتها بعدد من المفردات المعبرة عن الفعالية والتأثير، لأن ( مزايا ) تذكر بأمرين : ( المزايا فيما أحدث من البدع بأم الزوايا )، وهي مخطوطة للأستاذ المحتفى به أكثر من علاقة بها . فقد كانت ( أم الزوايا ) أي الزاوية الناصرية بتامكروت، أول مجال للرحلات الاستكشافية التي قام بها الأستاذ محمد ابراهيم الكتاني للتعريف بالمخطوطات المغربية كما سنرى . كما كان مؤلف ( الزوايا ) الشيخ السني السلفي محمد بن عبد السلام الناصري أشبه الناس بالأستاذ المحتفى به في الدعوة إلى الرجوع إلى ينابيع الإسلام الأولى وعقيدة السلف الصالح . وذلك كان سلفي القرن الثامن عشر، وهذا في طليعة سلفيي القرن العشرين .
وتذكر كلمة ( المزايا ) كذلك بأحد كبار علماء المغرب الذي كان له في ميدان المخطوطات صولات وجولات، المرحوم بكرم الله محمد المختار السوسي الذي كان وثيق الصلة بالأستاذ محمد ابراهيم الكتاني منذ عهد الشباب والطلب. فكان يدعوه، كسائر إخوانه في الخلايا الوطنية الأولى، أبا المزايا . وتمتنت الصلات العلمية أكثر في مرحلة البحث والتأليف، فكانت هدايا عالم فاس لأخيه عالم سوس تجري بما يكتشفه من نفائس المخطوطات، وكان محمد المختار السوسي يطرب لهذا ويعدها من أعظم المنن والمزايا، ويدعو صاحبها أبا المكارم والمزايا .
هذه إذن تحية أقدمها بين يدي نجواي لأبي المزايا، ثم أخلص للحديث عن عمله في المخطوطات . لكن من أين أبدأ ؟ وماهي مرحلة المخطوطات في المسار العلمي الطويل لهذا الباحث المنقب المتجول الذي لا يعرف التوقف والسكون، أو الراحة أو الاستجمام ؟ لقد كانت المخطوطات على مرأى منه ومسمع وهو ما يزال في المهد صبيا، فكانت من أول ما تعرف عليف ووعاه، مع واله وعشيرته الأقربين . أليس هو ابن الشيخ أحمد بن جعفر الذي خلف من مؤلفاته أزيد من مائة مخطوط ؟ أليس هو ابن أخي الشيخ محمد بن جعفر صاحب ( سلوة الأنفاس ) وما لا يكاد يحصى من المؤلفات في مختلف ميادين المعرفة ؟ أليس هو حفيد الشيخ جعفر بن ادريس عالم فاس ومحدثها الكبير الذي تضرب بمؤلفات الأمثال ؟ ثم أليس هو من الشعبة الكتانية الشريفة التي تسلسل العلم والتأليف فيها قرونا لا يدري مداها إلا من قرأ مخطوطات ( نظم الدر واللآل في شرفاء عقبة ابن الأصول ) و ( الأشراف على بعض من بفاس من مشاهير الأشراف ) لمحمد الطالب بن حمدون ابن الحاج، و ( النبذة اليسيرة النافعة التي هي لأستار جملة من أحوال الشعبة الكتانية رافعة ) لمحمد بن جعفر الكتاني، لا سيما الجزء الثاني من هذا الكتاب الأخير الذي يترجم لعلماء هذه الأسرة الشريفة ويلتزم بذكر مؤلفاتهم .
ومع ذلك فإني أقصر الحديث عن عمل الأستاد محمد بن إبراهيم الكتاني في ميدان المخطوطات على فترة ما بعد الاستقلال . ولو أن في ذلك شيئا غير قليل من التعسف والتجاوز . وأقسم كلامي عن هذه الفترة، بكل إيجاز، إلى قسمين : أشير أولا إلى أعماله في اكتشاف المخطوطات المغربية والتعريف بها في الداخل والخارج، مع سرد بعض الأمثلة اللازمة لتشخيص هذه الأعمال ؛ وأتحدث ثانيا عن تجربتي الشخصية مع سيدي إبراهيم في ميدان المخطوطات .
عين الأستاذ محمد ابراهيم الكتاني محافظا لقسم المخطوطات بالخزانة العامة بالرباط سنة 1957 م خلفا لمستعرب فرنسي، فكانت أمامه ثلاث مهمات : إعادة تنظيم هذا القسم الذي فقد في سنوات الحماية الأخيرة الكثير من أمهات مخطوطاته ونوادرها ؛ إغناءه عن طريق الاقتناء بمخطوطات جديدة . وفي هذا المضمار تذكر فتشكر جهود العالم المرحوم السيد محمد بن أبي بكر التطواني السلوي، واجتهاد الأستاذ المحتفى به، وهو الخبير بما تحتوي عليه الخزائن الخاصة من نفائس المخطوطات، في تصوير ما أمكن تصويره منها على الشريط أو الورق ؛ فهرسة هذه المدخرات في جذاذات تعرف بها، بعد أن توقفت هذه العملية أواخر عهد الجماية .
وإلى جانب هذه المهام الكتبية، كان لابد من القيام برحلات استكشافية إلى الخزائن العلمية الكبرى، ومعظمها، في البادية، للتعرف عليها أو على ما بقي فيها، ومحاولة تنظيمها والتعريف ببعض نفائسها . وكان للأستاذ محمد إبراهيم الكتاني في هذه الجولات، إلى جانب بعض العلماء المتخصصين، الحظ الوافر والقدح المعلى .
تأتي في الطليعة الرحلة إلى الزاوية الناصرية بتامكروت، أم الزوايا، وفيها اكتشف الأستاذ المحتفى به ( تاريخ خليفة ابن خياط ) وهو من شيوخ الإمام البخاري، وعنده روايات عن الفتوحات الإسلامية تخالف ما عند ابن جرير الطبري، وآخر من نقل عن أبو عمر ابن عبد البر قبل أن يسدل عليه الستار . هذه المخطوطة المكتشفة كتبت بقرطبة، وهي جيدة فريدة لا ثاني لها في خزائن العالم . وقد اشتغل بتحقيقها بعض الباحثين العرب، وطبعت بالشام وبالعراق .
ثم زار الأستاذ محمد ابراهيم الكتاني خزانة الزاوية الحمزاوية بجبل العياشي جنوبي ميدلت . وهي من تأسيس الرحالة الشهير أبي سالم العياشي، مؤلف ( ماء الموائد ) . وفيها اكتشف المحتفى به نسختين من ديوان شاعر مغربي صوفي من جبل العلم انتقل إلى البيت المقدس، في تاريخ غير محدد، واستقر به، حيث ما يزال أحفاده هناك وفي القاهرة . هذا الديوان، الذي تأتي أشعاره على نفس أشعار ابن الفرض، ظل مغمورا لا يعرف عنه شيء ولا عن صاحبه ولا ثالث لنسختي الزاوية الحمزاوية فيما يقرأ من فهارس خزائن العالم . وما أحراه بالتناول والتحقيق لا سيما وأنه يعد حلقة في سلسلة تاريخ الشعر الصوفي الإسلامي عامة، والمغربي خاصة وشاهدا على العلاقات الثقافية بين المغرب والمشرق .
وفي خزانة بزو، وقف الأستاذ محمد ابراهيم الكتاني، من بين مخطوطاتها، ( كتاب البرصان والعرجان ) للجاحظ . وهو كتاب لم يكن يعرف إلا اسمه، بحيث أن مخطوطة بزو تعد فريدة في العالم . فتهافت عليها علماء التراث ونشرت مرتين .
ولا يتسع المجال لذكر رحلات أبي المزايا إلى خزائن زاوية تنغملت بضواحي بني ملال، والجامع الكبير بمكناس، والجامع الكبير، بتازة وضريح مولاي عبد الله الشريف بوزان، وما اكتشفت فيه من نوادر المخطوطات، وإنما نشير إشارة خاطفة إلى بعض رحلاته خارج المغرب .
زار الأستاذ محمد ابراهيم الكتاني جامعة الجزائر لحضور تأبين الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، رحمه الله . ومن تم نزل إلى إحدى زوايا الصحراء بالقرب من بسكرة، فاطلع من بين مخطوطاتها على كتاب ( منهاج الرسوخ في الناسخ والمنسوخ ) لأبي العباس العزفي، أمير سبتة . وهو من النوادر التي لم تعرف قبل، بل لم ينسبه إلى العزفي حتى اللذين ترجموا لهم من المغاربة وغيرهم . وقد تمكن من إحضار هذا المخطوط إلى المغرب وتصويره بالخزانة العامة بالرباط .
وزار الأستاذ الكتاني ليبيا، فتوجه إلى جغبوب، مقر الزاوية السنوسية وخزانتها الكبرى . وفيها وقف على مخطوطات مغربية عديدة ومؤلفات الشيخ المجاهد محمد بن علي السنوسي، تلميذ الشيخ أحمد التجاني . وسجل الشيخ المحتفى به بيده، مادام لم يمكنه التصوير، فوائد مهمة عن الشيخ التجاني والجهاد اللبي والحياة العلمية بالمغرب كما عرفها بها الشيخ السنوسي .
وقد تعددت زيارات الأستاذ المحتفى به في إطار اهتمامه بالمخطوطات إلى الزاوية القادرية والمتحف العراقي ببغداد، ومكتبات المملكة العربية السعودية والكويت، وجامعة برنسطون وهارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية . واستنسخ فيها بالتصوير للخزانة العامة بالرباط، أو نقل بخطه، ما استطاع مما يهم المغرب من مخطوطاته ووثائقها .
وفي إسبانيا مكث الأستاذ محمد ابراهيم الكتاني 40 يوما بالأسكوريال مستقصيا المخطوطات المغربية فيها، وهي تمثل أغلب مذخراتها العربية . كما قضى وقتا في كل من المكتبة الوطنية والمكتبة الملكية التاريخية بمدريد . ومن أهم المخطوطات النادرة التي اكتشفها في هذه الأخيرة ( رائد الفلاح بعوالي الأسانيد الصحاح )، وهو فهرس المؤرخ المغربي الشهير أحمد ابن القاضي، كتبه بخطه عام 1010 هـ / 1601 م، مجيزا به الأمير زيدان بن السلطان أحمد المنصور الذهبي . وهذه المخطوطات فريدة لا ثاني لها . ولم يكن يعرف عن هذا الفهرس إلا ما ذكره ابن القاضي عنه في كتبه الأخرى . وقد نسخ أبو المزايا بخطه فوائد منه في ( كناش ) كان هو المصدر الذي اعتمدت عليه فيما كتبته في أطروحتي ( الحركة الفكرية ) عن الأمير زيدان، لا سيما الجانب الأدبي الذي لم يتعرض له غير ابن القاضي من معاصريه . وظلت الجهود التي بذلت للحصول على صورة هذا المخطوط بدون جدوى، إلى أن تمكن من ذلك أحد طلبتي في السنتين الأخيرتين من الحصول عليه بعد لأي، وحققه كرسالة دبلوم الدراسات العليا بكلية الآداب بالرباط .
bibliothmaroc.blogspot.com منقول من
انظر الحوار حول المخطوطات بالكويت
فهرس المخطوطات العربية المحفوظة في الخزانة العامة بالرباط -القسم 3
تأليف محمد ابراهيم الكناني وصالح التادلي
من منشورات الخزانة العامة بالرباط
سنة 1997
تحت إشراف السيدالوزير المحترم أحمد التوفيق
عرفانا وتقديرا وترحما يشمل المؤلفين حسب تعبيره
جزاه الله عنهما خير الجزاء
تحميل الكتاب